موسيقا الناس نصفها ألحان معبّرة ونصفها كلام ملحن، وموسيقانا كلها كلام! وإن الكلام في موسيقاهم نصفه للمرأة ونصفه للطبيعة والوطن والحياة، وما عندنا كله للمرأة! وإن ما للمرأة عندهم نصفه من الغزل السامي الاتباعي (الكلاسيك) ونصفه غزل خفيف، وليس عندنا إلا هذا الغزل الخفيف بلفظ عامي فظيع ومعان شنيعة مبتذلة ونغم مسترخٍ متخنث! وهم يجدون كل يوم جديداً ونحن -لعقم القرائح- نردد ونعيد. ولماذا أعمم القول فأكون ظالماً؟ لا؛ ليس كله كذلك! وقد نسمع أغاني تبلغ في جمال لفظها وحسن معناها وتوقيع لحنها ذروة الكمال، ولكنا نسمعها أول مرة فنستجدّها ونستجيدها ونستعيدها، ونسمعها الثانية فنطرب لها ونسر بها، ونسمعها الثالثة فنستملحها، والرابعة فلا نكرهها، والخامسة فنبدأ بالإعراض عنها، والسادسة فنضيق بتكرارها. فلا تزال الإذاعة تعيدها حتى تأتي المرة العاشرة والخامسة عشرة والسادسة والسبعون فتطلع منها أرواحنا. ولو كانت الشهد المصفى أو الفالوذج وأطعمتها إنساناً كل يوم عشر مرات، وحشوت به فمه جائعاً وشبعان، راغباً وكارهاً، لصار لها في فمه طعم العلقم!
* * *
أما الناس فإزعاجهم أكبر وأنكر. وأنا أستطيع أن أسد الرادّ فلا أسمع ما تذيع الإذاعة، أو آخذ منه ما صفا وأدع ما كدر، ولكن ما أصنع بمَن لا يطرب إلا إن أشرك معه بسماع الأغنية مئة جارة وجار، من أمام ومن خلف وعن اليمين وعن اليسار؟ فكيف ننام، وكيف نشتغل، وكيف نخلص التوجه إلى الله، ومن كل