الإلهام، قرع آذانهم صوت الرادّ من بيت الجيران بأغنية رقيقة أو موسيقا صاخبة، أو حديث أشد إزعاجاً وغلاظة من حديثي هذا، فطارت الأفكار وامّحت صور الخيال وانقطع الإلهام.
ولكن لا. إني أظلم المخترع، فإنه ما اخترع الراد لهؤلاء الجاهلين المزعجين الذين لا يطربون إلاّ إن أسمعوا معهم مئة دار، لا يدرون حينما يمدون إصبعهم الواحدة فيحركون هذا المفتاح حركة طفيفة كم أطاروا النوم من رأس مريض يقاسي الآلام ويرجو لحظة منام، وكم ضيعوا على العلماء والأدباء من ثمرات العقول وصور الجمال، وكم شغلوا تلميذاً عن امتحانه، وكم جرحوا من قلوب المحزونين! وأنا لا أكره أن يستمتع كل امرئ بحريته فيسمع ما شاء من الأغاني المباحة ويطرب ما طاب له الطرب، ولكن ما ذنبي أنا؟ ولماذا يسلبني حريتي فيُسمعني ما يشاء هو لا ما أشاء أنا؟ لماذا يطربني على رغم أنفي، ومَن أدراه أني أطرب للذي يطرب له هو، وأن الأغنية التي يحبها هو لا أكرهها أنا والتي تلذّه لا تسوؤني؟ ولماذا يزعج دائرة قطرها مئة متر وفيها خمسمئة إنسان؟
لقد صرت أكره الرادّ وكل ما يأتي به، ولقد أفسد ذوقي وذهب بالحسّ الفني من نفسي! كنا إذا سمعنا الأغنية الحلوة طربنا لها وصفّقت لها قلوبنا، فما زالت بنا الإذاعات حتى كرّهت إلينا كل أغنية حلوة لأنها تعيدها مرة ثانية، وثالثة، وعاشرة، وتعيدها المرة التاسعة والتسعين، فلا يبقى منها إلاّ ما يبقى من البرتقالة عصرتَ ماءها. وخذ ألذّ أكلة تحبها، إنْ فرضوها عليك شهراً كاملاً لا تأكل غيرها الصباح والظهر والمساء وعشر مرات