أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، حدثنا إبراهيم بن محمد الطائفي، حدثني صقر بن محمد مولى قريش، حدثنا الأصمعي قال: سمعت رجلاً من بني تميم يقول: أضللت إبلاً لي، فخرجت في طلبهن، فمررت بجارية أعشى نورها بصري، فوقفت بها، فقالت: ما حاجتك؟ قلت: إبل لي أضللتها، فهل عندك شيء من علمها؟ قالت: أفلا أدلك على من عنده علمهن؟ قلت: بلى! قالت: الذي أعطاكهن هو الذي أخذهن، فاطلبهن من طريق التيقن لا من طريق الاختيار. ثم تبسمت، وتنفست الصعداء، ثم بكت وأطالت البكاء، وأنشأت تقول:
إني وَإنْ عَرَضَتْ أشياءُ تُضحِكُني، ... لمُوجَعُ القَلبِ مطوِيّ عَلى الحَزَنِ
إذا دَجا اللّيلُ أحيا لي تَذَكّرَهُ، ... وَالصّبحُ يَبعَثُ أشجاناً عَلى شَجَنِ
وَكيفَ تَرْقُدُ عَينٌ صَارَ مُؤنِسُهَا ... بَينَ التّرَابِ، وَبَينَ القَبرِ وَالكَفَنِ
أبلَى الثّرَى وَتُرَابُ الأرْضِ جِدّتَهُ، ... كأنّ صُورَتهُ الحَسناءَ لَمْ تَكُنِ
أبكي عَلَيهِ حَنيناً حِينَ أذكُرُهُ، ... حَنينَ وَالِهَةٍ حَنّتْ إلى وَطَنِ
أبكي على مَن حَنَتْ ظهرِي مُصِيبَتُهُ، ... وَطَيّرَ النّوْمَ عَن عَيني وَأرّقَني
وَاللهِ لا أنسَ حبّي الدهرَ ما سَجَعتْ ... حَمَامَةٌ، أوْ بَكَى طَيرٌ عَلى فَنَنِ
فقلت، عندما رأيت من جمالها وحسن وجهها وفصاحتها وشدة جزعها: هل لك من بعل لا تذم خلائقه وتؤمن بوائقه؟ فأطرقت ملياً ثم أنشأت تقول:
كُنّا كَغُصنَينِ في أصلٍ غِذاؤُهُما ... ماءُ الجَدَاوِلِ في رَوْضَاتِ جَنّاتِ
فَاجتَثّ خيرَهُمَا من جَنبِ صَاحِبِهِ، ... دَهرٌ يَكُرّ بفَرْحَاتٍ وَتَرْحَاتِ