وَكنّا جميعاً قَبلَ أنْ يَظهَرَ الهَوَى ... بِأنْعَمِ حَالَيْ غِبْطَةً وَسُرُورِ
فَمَا بَرِحَ الوَاشُونَ حَتى بَدَتْ لَنَا ... بُطُونُ الهَوَى مَقْلُوبَةً لِظُهُورِ
فغنت، فخرج الغلام بجميع ما كان عليه من الثياب تخريقاً، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنك الصوت الثاني! فقال: غنيني بشعر جميل:
ألا لَيتَ شِعري هَلْ أبِيتَنَّ لَيلَةً ... بِوَادي القُرَى إني إذاً لَسَعيدُ
إذا قلتُ ما بي يا بُثيَنَةُ قَاتِلي ... من الحُبِّ قالت: ثابتٌ ويَزيدُ
وَإن قلتُ رُدي بعض عقلي أعش به ... معَ النّاسِ قالت: ذاكَ منك بَعيدُ
فَلا أنا مَرْدُوْدٌ بما جِئتُ طالِباً، ... وَلا حُبُّهَا فِيما يَبيدُ يَبيدُ
يَموتُ الهَوَى مني إذا ما لَقيتُها، ... وَيَحيَا إذا فارَقتُها، فَيَعُودُ
قال: فغنته الجارية، فسقط الغلام مغشياً عليه ساعةً، ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث! فقال: يا جارية غنيني بشعر قيس بن الملوح المجنون:
وَفي الجيرَة الغادينَ من بَطنِ وَجرَةٍ ... غَزَالٌ غَضيضُ المُقلَتينِ رَبيبُ
فَلا تَحسَبي أنَّ الغَريبَ الذي نأى ... وَلَكِنَّ مَن تَنأينَ عَنهُ غَرِيبُ
فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه من المستشرف فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع، فقال عبد الملك: ويحه لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر، فأخرجت الجارية من قصره، ثم سأل عن الغلام، فقالوا: غريب لا يعرف إلا أنه منذ ثلاث ينادي في الأسواق ويده على رأسه:
غداً يكثُرُ الباكونَ مِنّا وَمِنكُمُ، ... وَتَزْدادُ دارِي من دِيارِكُمُ بُعدا