يخجله، ثم خرجت فقالت: أيكم الذي يقول:
ألا حَبّذا البَيتُ الذي أنا هَاجِرُهْ ... فلا أنا ناسيه، وَلا أنا ذَاكِرُهْ
فَبُورِكَ من بَيتٍ وَطَالَ نَعيمُهُ ... وَلا زالَ مَغشِيّاً وَخُلّدَ عامِرُه
هوَ البيتُ بيتُ الطَّوْلِ وَالفضْلِ دائماً ... وَأسعَدَ رَبي جَدّ مَن هُوَ زَائرُهْ
بهِ كلّ مَوْشيِّ الذّرَاعَينِ يَرْتَعي ... أُصُولَ الخُزَامَى ما تَيَقّنَ طائرُهْ
هُمَا دَلّتاني مِنْ ثَمَانينَ قَامةً ... كما انقَضّ بازٍ أقتمُ الرّيشِ كاسرُهْ
فلما استَوَتْ رِجلايَ في الأرْضِ قالتا: ... أحَيٌّ نُرَجّي أم قَتيلٌ نُحاذرُهْ
فأصْبَحتُ في أهلٍ وَأصبَحَ قصرُها ... مُغَلّقَةً أبْوَابُهُ ودَسَاكِرُهْ
فقال أبي، يعني الفرزدق: أنا قلته. قالت: ما وفقت ولا أصبت، أما أيست بتعريضك من عودة عندك محمودة؟ خذ هذه الستمائة، فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها، ثم عادت فقالت: أيكم الذي يقول:
فَلَوْلا أنْ يُقَالَ صَبا نُصَيبٌ ... لَقُلتُ بِنَفسِيَ النّشءُ الصّغَارُ
بِنَفسِي كُلّ مَهضُومٍ حَشاهَا، ... إذا ظُلِمَت فليسَ وَلها انتصَارُ
فقال نصيب: أنا قلته. فقالت: أغزلت وأحسنت وكرمت، إلا أنك صبوت إلى الصغار، وتركت الناهضات بأحمالها. خذ هذه السبعمائة درهم، فاستعن بها.
ثم انصرفت إلى مولاتها، ثم عادت فقالت: أيكم الذي يقول:
وَأعجَبَني يا عَزّ مِنك خلائقٌ ... كِرَامٌ إذا عُدّ الخلائِقُ أرْبَعُ
دُنُوُّكِ حتى يذكرَ الجاهلُ الصّبي ... وَمدّكِ أسبابَ الهوَى حينَ يَطمعُ
وَأنّكَ لا يدرِي غَرِيمٌ مطلتهِ، ... أيَشتدّ إن لاقاكِ أمْ يَتَضرّعُ
وَأنّكَ إن وَاصَلتِ أعلمتِ بالذي ... لديك فلم يوجَد لك الدهرَ مطمعُ