فانصرفت زرعة وقد خامره من حبها ما غلب على عقله، فغبر أياماً عنها، وامتنع من الطعام والشراب والقرار، وأنشأ يقول:
يا بُغيَةً أهدَتْ إلى القلبِ لوْعَةً ... لقد خُبئَتْ لي منك إحدى الدهارسِ.
وما كنتُ أدري والبَلايا مُظِلّةٌ ... بأنّ حِمامي تحتَ لحظِ مُخالِسِ.
جَلَستُ على مَكتوبَةِ القَلبِ طائِعاً، ... فيَا طَوْعَ مَحبوسٍ لأعنَفِ حابِسِ.
فشاع هذا الشعر في الحي وبلغ المفداة، فاحتجبت عنه، وامتنعت من محادثة الرجال، فامتنع من الحركة والطعام، فغبر على ذلك حول، ومات عظيم من عظماء القبائل فبرز مأتم النساء، فبلغ زرعة أن المفداة في المأتم، فاحتمل حتى تنائى نشزاً، واجتمع إليه لذاته يفندون رأيه ويعذلونه، فأنشأ يقول:
لمْ يُلَمُ في الوَفاءِ مَن كَتَمَ الْ ... حُبّ وأغضى عُلى فؤادٍ لَهِيدِ.
صَابَنا ذاك لاسم من جلبَ السّ ... مَ علَيه ونفسُهُ في الوَريدِ.
ثم شهق، فمات، وتصايح أصحابه ونساؤهن وبلغ المفداة خبره، فقامت نحوه حتى وقفت عليه، وقد تعفر وجهه، وأهله ينضحونه بالماء، فهمت أن تلقي نفسها عليه، ثم تماسكت، وبادرت خباءها، فسقطت تائهة العقل، تكلم فلا تجيب، سحابة يومها، فلما جنّ عليها الليل رفعت عقيرتها فقالت:
بِنَفْسِي يَا زَرْعَ بْنَ أرْقَمَ لوْعَةٌ ... طَوَيتُ علَيها القلبَ والسرُّ كاتِمُ.