حياة العرب ومجتمعاتهم في الجاهلية، فلا يُقلِي القول إلقاء عامًّا يشمل عرب الجاهلية كلهم. فإن من الخطإ أن نعمم على سكان الحواضر والبوادي أحكامًا يتصف بها قطان الصحاري وحدهم، أو أن نصم أهل المدر بالجهل والبدائية اللذين كانا من صفات بعض أهل الوبر.
وإذ كان ذلك كذلك، كان لابد لسكان الحواضر المستقرين في مدنهم وقراهم، ولقطان البادية القريبة من الحواضر، المطيفة بها من أن يأخذوا بنصيب متفاوت من مظاهر الحضارة التي كانت تعرفها الأمم المجاورة لهم.
2
ومن هنا كان حديثنا في الباب الأول من بحثنا عن أهم مظهر من مظاهر هذه الحضارة، وهو الكتابة والتدوين. فاستقرينا في الفصل الأول النقوش الجاهلية الشمالية، وانتهينا إلى أن هذا الخط العربي -الذي عرف في الإسلام بالخط الكوفي- قد كان معروفًا في الجاهلية منذ مطلع القرن الرابع الميلادي على أقل تقدير، وأن عرب الجاهلية قد كتبوا بهذا الخط الذي كان المسلمون يستطيعون قراءته في يسر، ونستطيع نحن الآن أن نقرأه بعد شيء من المرانة والدربة ثلاثة قرون قبل الإسلام أو تزيد. ثم جمعنا قدرًا صالحًا من النصوص والروايات -بعضها يكاد يكون قاطع الدلالة- وخلصنا منها إلى ترجيح معرفة عرب الجاهلية بالنقط والإعجام. ثم عرضنا آرء بعض القدماء الذين عمموا الحكم على عرب الجاهلية فوصموهم بالجهل والأمية، ورددنا هذه الأحكام ردًّا اطمئننا إلى صوابه، وزاد اطمئناننا حين جمعنا بعض أسماء المعلمين في الجاهلية، وبعض النصوص والأخبار التي تشير إلى قيام مدارس لتعليم الكتابة في الحواضر العربية في الجاهلية نفسها، وزدنا على ذلك أن بعض عرب الجاهلية لم يكونوا يكتفون بتعليم الكتابة العربية وحدها، وإنما كانوا يتعملون أيضًا لغات الأمم التي تربطهم بهم روابط كثيرة،