4- والشعران الجاهلي العربي والهومري مصدران تاريخيان من مصادر الحياة الجاهلية عند هاتين الأمتين؛ بل ربما كانا -حتى الآن- المصدرين الأساسيين اللذين يعتمد الدارس عليهما في فهم هذه الحياة -في كثير من جوانبها- فهمًا متصلًا متسقًا. وجل الأخبار التاريخية والأدبية التي نقلها الرواة إنما كانت تدور حول هذا الشعر: تفسره وتشرح ما يتضمنه من حوادث، وتترجم لمن يشير إليه من أشخاص. وقد لجأ القدامى أنفسهم إلى الشعر العربي الجاهلي يستنطقونه ويستنبطون منه توضيح بعض جوانب الحياة في الجاهلية، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما فعله ابن قتيبة في كتابه "الميسر والقداح"، وما فعله أبو طالب المفضل بن سلمة في كتابه "الملاهي وأسماؤها". وأما الشعر الهومري فهو أيضًا أو سجل يعرض صورة واضحة نابضة بالحياة للحضارة الآرية، ولقد كادت فترة طويلة من الحياة الهيلينية المبكرة تكون لولاه نسيًا منسيًّا، ولكنها الآن بفضله تبدو متصلة بالعصر الهيليني التالي في نسف متدرج مستمر1.

5- وكان الفضل الأول، في جمع الشعرين الجاهلي العربي والهومري وتدوينهما ونقدهما، لمدرستين لغويتين أدبيتين؛ قامت أولاهما في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، فجمعت ما استطاعت العثور عليه من مخطوطات الإلياذة والأوديسة، وقابلت بينها، وأثبتت القراءات المختلفة للنص الشعري، وعلقت عليه كثيرًا من التعليقات والشروح، ثم تابعتها بعد ذلك مدينة برجامس.

وقامت ثانيتهما في البصرة والكوفة منذ منتصف القرن الثاني الهجري، فصنعت بالشعر الجاهلي صنيع أختها بالشعر الهومري. وعلى ما أرسته هاتان المدرستان من أسس، ووضعته من قواعد، قام البناء الشامخ لدراسة الشعر الهومري والشعر الجاهلي العربي بعد ذلك.

6- ولم يقتصر عمل هاتين المدرستين على الجمع والتدوين والشرح والتعليق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015