الرابع: وآخر هذه الأدلة العقلية الاستنباطية: هذا الشعر الجاهلي الحافل بذكر الكتابة وصورها، والإشارة إلى أدواتها، وتشبيه الأطلاق والرسوم ببقايا الخطوط على الرق أو المهارق أو سائر أنواع الصحف، مما يدل على أن هؤلاء الشعراء الجاهليين كانوا على علم دقيق، بأنواع الكتابة والحروف1. وقد ذكرنا هذا الشعر الجاهلي، الذي يحفل بذكر الكتابة، متفرقًا في مواطنه من الباب السابق حين تحدثنا على أدوات الكتابة وآلاتها، واستشهدنا به لكل جزء من أجزاء البحث، ووجدنا أن الشعر الجاهلي لم يغفل صغيرة ولا كبيرة فيه، وإنما استوعب الموضوع من نواحيه، ولمه من أطرافه كلها. ومع ذلك فإننا سنشير إلى أبيات قليلة فيها من الصور الشعرية المركبة ما ينبئ عن أن قائلها لا بد أن يكون عالمًا بهذه الصور، وأن الجاهل بها لا يتأتَّى له ذكرها ووصفها على هذا الوجه المفصل.

فأبو ذؤيب الهذلي يشير إلى كاتب يكتب دينًا له -وليس في هذه دلالة على شيء مما نذهب إليه لو وقف عنده- ولكنه يصف في بيتين كتابة هذا الكاتب الدائن، وأنها كانت كتابة دقيقة يتأنق فيها حتى يجعلها مزخرفة مزينة كالعروس ليلة تُهدى إلى زوجها. فوصف أبو ذؤيب هذه الكتابة بأنها "رقم" و"وشي" و"نمنمة". ثم يصف لنا الصحف التي كان يكتب عليها، ويذكر أنها ناعمة رقيقة "كالرياط"، ولا يكتفي بذلك بل إنه ليعرف أن هذه الصحف لا يكتب عليها الكاتب أول مرة، وإنما يستخدمها بعد أن استخدمها غيره من قبله، فجاء صاحبنا الدائن فمحا الكتابة السابقة، وكتب عليها دينه، ولكن آثار الكتابة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015