الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، فهذا قد يقال: إنه كان جاحدًا للصانع، ومع هذا فالقصة ليست صريحةً في ذلك، بل يدعو الإنسان إلى عبادة نفسه، وإن كان لا يصرح بإنكار الخالق، مثل إنكار فرعون.
وبكل حال فقصة إبراهيم إلى أن تكون حجة عليهم أقرب منها إلى أن تكون حجة لهم، وهذا بَيِّنٌ ولله الحمد، بل ما ذكره الله عن إبراهيم يدل على أنه كان يُثبت ما ينفونه عن الله، فإن إبراهيم قال: {إِنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاَءِ}، والمراد به أنه يستجيب الدعاء، كما يقول المصلي: سمع الله لمن حمده، وإنما يسمع الدعاء، ويستجيبه بعد وجوده، لا قبل وجوده، كما قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] فهي تجادل، وتشتكي حال سَمْعِ الله تحاورهما، وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون} [التوبة: 105]، وقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ في الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14]، فهذه رؤية مستقلة، ونظر مستقل، وقد تقدم أن المعدوم لا يُرَى ولا يُسمَع منفصلًا عن الرائي السامع باتفاق العقلاء، فإذا وُجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها، والرؤية، والسمع أمر وجودي، لا بد له من موصوف يتصف به، فإذا كان هو الذي رآها وسمعها، امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع، وهذه الرؤية، وأن تكون قائمة بغيره، فتعين قيام هذا السمع، وهذه الرؤية به بعد أن خُلقت الأعمال والأقوال، وهذا مطعن لا حيلة فيه.
وقد بُسط الكلام على هذه المسألة، وما قال فيها عامة الطوائف في غير هذا الموضع، وحَكيت ألفاظ الناس، بحيث يتيقن الإنسان أن النافي ليس معه حجة، لا سمعية، ولا عقلية، وأن الأدلة العقلية الصريحة، موافقة لمذهب السلف، وأهل الحديث، وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة، مع الكتب المتقدمة: التوراة، والإنجيل، والزبور، فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء، وأقوال السلف، وأئمة العلماء، ودلت عليها