شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) -رضي الله عنه-، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِيَدِهِ) ظاهر في أنه كتبه -سبحانه وتعالى- بيده، كما صحّ أنه كتب التوراة لموسى بيده، وقد قدّمنا غير مرّة أن الحقّ أن لله -سبحانه وتعالى- يدًا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحاح، كهذا الحديث وغيره، أما ما ذكره في "الفتح" في "كتاب بدء الخلق"، وفي "كتاب التوحيد" في شرح هذا الحديث من التأويلات الزائفهّ المخالفة لطريق السلف فَمِمَّا يجب الحذر عنه، ولولا مخافة التطويل لأوردته، مع التعليق عليه، ولكن يكفي اللبيب التلميح، فإنّه يفهم بالإشارة ما لا يفهمه الغبي بألف عبارة (قَبْلَ أَنْ يَخَلُقَ الْخَلْقَ) وفي رواية البخاريّ من طريق الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لمّا قَضَى الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي".
ولا تنافي بين الروايتين؛ لإمكان حمل قوله: "لمّا قضى إلخ" أي أراد أن يقضي، فهو قبل الخلق، والله تعالى أعلم.
(رَحْمَتِي) مبتدأ خبره قوله: (سَبَقَتْ غَضَبِي) وفي رواية البخاريّ المذكورة: "غَلَبت" بدل سبقت، والغلبة هي المراد بـ "سبقت" هنا.
قيل: المعنى أن تعلّق الرّحمة غالبٌ سابقٌ على تعلّق الغضب؛ لأن الرّحمة مقتضى ذاته المقدّسة، وأما الغضب فإنّه متوقّف على سابق عمل من العبد، وبهذا يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرّحمة في بعض المواطن، كمن يدخل النّار من الموحّدين، ثمّ يخرج بالشفاعة أو غيرها.
وقيل: معنى الغلبة الكثرة والشمول، تقول غلب على فلان الكرم، أي أكثر أفعاله، وهذا كلّه بناءٌ على أن الرّحمة والغضب من صفات الذات، وقال بعض العلماء: الرّحمة والغضب من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدّم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارةُ بالرّحمة إلى إسكان آدم عليه السلام الجنّة أَوَّلَ ما خُلق مثلًا، ومقابلها ما وقع من إخراجه منها، وعلى ذلك استمرّت أحوال الأمم بتقديم الرّحمة في