الشيطان.
قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أن الذي يتعيّن بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله، والرضا بما قدّر الله تعالى، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات، فإن افتكر فيما فاته من ذلك، وقال: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا جاءته وساوس الشيطان، ولا تزال به حتى تُفضي به إلى الخسران؛ لتعارض توهّم التدبير سابق المقادير، وهذا هو عَمَلُ الشيطان الذي نَهَى عنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فلا تقل: لو، فإن لو تفتح عمل الشيطان"، ولا يُفهم من هذا أنه لا يجوز النطقُ بـ "لو" مطلقًا، إذ قد نطق بها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لو أني استقبلتُ ما استدبرتُ لم أسُق الهدي، ولجعلتها عمرةً"، متّفقٌ عليه، و"لو كنت راجمًا أحدًا بغير بيّنة لرجمتُ هذه"، متّفقٌ عليه، وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "لو أن أحدهم نظر إلى رجليه لرآنا"، ومثله كثير؛ لأن محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيما إذا أُطلقت في معارضة القَدَر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور، فأما لو أخبر بالمانع على جهة أن تتعلّق به فائدة في المستقبل، فلا يُختلَف في جواز إطلاقه؛ إذ ليس في ذلك فتحٌ لعمل الشيطان، ولا شيء يُفضي إلى ممنوع ولا حرام. انتهى كلام القرطبيّ (?)، وهو نفيس جدّا. والله تعالى أعلم.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قال بعض العلماء: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنه لو فَعَل ذلك لم تُصبه قطعًا، فأما من رَدّ ذلك إلى مشيئة الله تعالى بأنه لن يصيبه إلا ما شاء الله، فليس من هذا، واستَدَلَّ بقول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في الغار: "لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا".
قال القاضي: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن مُستَقبَلٍ، وليس فيه دعوى لردّ قدر بعد وقوعه، قال: وكذا جميع ما ذكره البخاري في "باب ما يجوز من اللَّوّ"، كحديث: "لولا حِدْثانُ عهد قومك بالكفر، لأتممت البيت على قواعد إبراهيم"،