يقول السائل: هل الاستماع والانصات لقارئ القرآن الكريم، إذا كان يقرأ من الإذاعة أو في المسجد واجب لقوله تعالى:
(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)؟
الجواب: يرى كثير من أهل العلم أن هذه الآية الكريمة " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصوا لعلكم ترحمون) سورة الأعراف /204. قد نزلت في الصلاة، وهذا يدل على أن الإستماع لقراءة القرآن يكون واجباً حال قراءة الإمام للقرآن في الصلاة سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ونقل ابن جرير الطبري شيخ المفسرين، أن هذه الأية نزلت في الصلاة عن جماعة من السلف، فقد روى ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما تزلت هذه الآية (وإذا قرئ القرآن). أمروا بالإنصات.
وروي مثل ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والزهري وعطاء وعبيد بن عمير وعن سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وابراهيم النخعي وقتادة وغيرهم.
وهذا أرجح أقوال العلم في سبب نزول هذه الآية وبناء عليه يكون الإستماع واجباً لقراءة الإمام في الصلاة.
وأما الاستماع والإنصات لقراءة القارئ خارج الصلاة، سواء كان يقرأ من الإذاعة أو في المسجد أو كان يقرأ من المسجل فمندوبه، قال ابن عبد البر: "في قول الله عز وجل: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)، مع إجماع أهل العلم أن مراد الله من ذلك في الصلوات المكتوبة أوضح الدلائل على أن المأموم إذا جهر إمامه في الصلاة أنه لا يقرأ معه بشيء، وأن يستمع له وينصت "فتح المالك بترتيب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك 2/ 126.
وذكر ابن عبد البر في الإستذكار وفي التمهيد خبر أبي عياض عن أبي هريرة قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا)) وقال إبراهيم بن مسلم: "فقلت لأبي عياض: لقد كنت أظن أن لا ينبغي لأحد يسمع القرآن ألا يسمع، قال: إنما ذلك في الصلاة المكتوبة، فأما في الصلاة غير المكتوبة فإن شئت سمعت وإن شئت مضيت ولم تسمع " الإستذكار 4/ 230.
وقال ابن جرير الطبري بعد أن ساق أقوال العلماء في تأويل الاية السابقة:" وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام، وكان من خلفه ممن يأتم به يسمعه في الخطبة، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا) واجماع الجميع على أن من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة، الإستماع والإنصات لها مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والأنصات لسماعه من قارئه إلا في هاتين الحالتين على اختلاف في إحداهما وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به. وقد صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر من قوله: (إذا قرأ الأمام فأنصتوا).
فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان مؤتماً سامعاً قراءته بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تفسير الطبري 6/ 166.
وروى الطبري بإسناده عن سعيد بن جبير أن الأية (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا)، قال:" الانصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام في الصلاة" تفسير الطبري 6/ 166.
وعلق القرطبي على قول سعيد بن جبير بعد أن نقله بقوله: " وهو الصحيح لأنه يجمع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات "تفسير القرطبيي 7/ 353 - 354 ثم نقل القرطبي عن النقاش قوله: " أجمع أهل التفسير أن هذا الإستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة".
وحكى ابن المنذر الإجماع على عدم وجوب الإستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة وذلك أن إيجابهما على كل من يسمع أحداً يقرأ فيه حرج عظيم لأنه يقتضي أن يترك له المشتغل بالعلم علمه والمشتغل بالحكم حكمه، والمتبايعان مساومتهما وتعاقدهما، وكل ذي شغل شغله "تفسير المنار 9/ 552 - 553.
وقال العز بن عبد السلام: " الإستماع للقرآن والتفهم لمعانيه من الأداب المشروعة المحثوث عليها، والإنشغال عن ذلك بالتحدث بما لا يكون أفضل من الإستماع سوء أدب على الشرع " فتاوى العز بن عبد السلام ص 485 - 586.
وقال جلال الدين السيوطي: " يسن الإستماع لقراءة القرآن، وترك اللغط والحديث بحضور القراءة، قال تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون). الاتقان 1/ 145.
ومما يدل على أن الإستماع لقراءة القرآن خارج الصلاة والخطبة مندوب ما ورد من الأدلة في جواز الكلام خارج الصلاة والخطبة.
ومما ينبغي التنبيه عليه، ان ترك الإستماع والإنصات للقرآن والإنشغال بالأحاديث المختلفة مكروه كرهية شديدة، وتكون الكراهة أشد إذا كان المتحدثون بأمور الدنيا قرب قارئ القرآن، وأما إذا كان المجلس فيه كثير من الناس يستمعون وينصتون، فتنحى بعضهم وتحدثوا بصوت منخفض من غير تشويش على الاخرين فالخطب هين ويسير.
ولا يعني قولنا إن الاستماع لقارئ القرآن في المسجد أو الإذاعة أو من المسجل مندوب أن يتساهل الناس في الإستماع لكلام الله، فينبغي لكل مسلم أن يحرص على الإستماع والإنصات لقراءة القرآن وأن يتأدب في مجلس قراءة القرآن.
كما وينبغي التنبيه أن بعض القراء يستئون في قرائتهم للقرآن الكريم، ويشوشون على عباد الله، كالقراء الذين يقرآون في المآتم عبر مكبرات الصوت، فإن ذلك حرام شرعاً، وكذلك القراء الذين يقرأون عبر مكبرات الصوت قبل صلاة الجمعة وقبل الآذان للصلوات الخمس، فكل ذلك من البدع المخالفة للشرع لأن هؤلاء وأولئك يشوشون على عباد الله، وخاصة يوم الجمعة، فإن الوقت قبل صلاة الجمعة هو وقت للتنقل والدعاء وللذكر والاستغفار، ولا ينبغي لأحد أن يشوش على عباد الله في قراءة القرآن، ولا بالدروس ولا بالمواعظ، وأنما كل مسلم يقرأ إن رغب أو يصلي أو يدعو أو يستغفر لوحده.
وقد ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه الإمام مالك، وقال الشيخ الألباني: سنده صحيح.