والجني لا يمكن أن يمتع الإنسي بأمر حتى يستفيد منه قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، فالاستمتاع هنا متبادل، فلابد للإنسي أن يتقرب إلى الجني بما لا يجب أن يتقرب به إلا إلى الله تعالى وهذه متعة للجني، وبالمقابل تكون متعة الإنسي بإخباره بهذه المغيبات أو بأن يفعل له شيئاً من خوارق العادات والكرامات والمعجزات.
وهذا هو محل النزاع وهو أنه لا يمكن للجني أن يخدم الإنسي حتى يتمتع به، فإن قلنا: إنه لا يمكن أن يمتع الجني الإنسي بشيء حتى يتمتع منه هو بصرف القربة له فهذا شرك أكبر، وأما إذا قلنا بأن هناك من الجن -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - من هو مؤمن يحب المسلم الإنسي في الله فيتعاون معه على البر والتقوى ويقاتل أهل الكفر والإلحاد من أجله ويفعل ذلك فهذا جائز، بل إن ابن عثيمين يرجح استحبابه.
وأنا أقول: إن أقل ما يوصف به هذا الحال أنه من الشرك الأصغر؛ لأنه أتخذ سبباً لم يشرعه الله وإلا فأين الدليل على أن الله جل في علاه شرع لنا الاستعانة بالجن؟ فالاستعانة عبادة، والعبادة لا تصح إلا لله جل في علاه، فأقل أحوال هذا النوع أنه من الشرك الأصغر، لكن إذا كان الحال وفق القاعدة التي قعدها العلماء من أنه لا يمكن للجني أن يمتع الإنسي إلا أن يتمتع الجني من الإنسي فهذا من الشرك الأكبر، وهذا واضح وجلي في عصورنا فترى كثيراً من الناس يربط المصحف في رجله، ومنهم من يبول على المصحف، وهذا يكون بأمر هؤلاء الجن حتى يمتعوه، بل أكثر من ذلك ترى المشعوذ الذي يقرأ على المصروع تراه يأمره بأن يذبح ديكاً لونه أحمر مختلطاً بالأصفر، أو يذبح ديكاً له رجل واحدة، أو قرداً له ثلاث أرجل، وهذه الأوامر كلها أوامر من الجني أصلاً.
أما القسم الثاني فالخلاف فيه هين وهو الإخبار بالغيب المطلق، فإذا أخبر به الكاهن فقد كفر كفراً أكبر من وجهين: الوجه الأول: شرك في الربوبية.
والوجه الثاني: يمكن أن نقول شرك في الإلهية لكنه أيضاً في الربوبية.
ففي الوجه الأول: يكون قد أشرك في الربوبية لأنه نازع الله في صفة من صفاته ألا وهي العلم بالغيب المطلق، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]، وهذا أسلوب حصر وهو أقوى الأساليب في الإثبات، وقول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، إلى آخر الآيات، فالغيب كله لا يعلمه إلا الله جل في علاه فمن خط الخط وأخبر بالغيبيات فقد نازع الله في صفة من صفاته.
أما في الوجه الثاني فيكون قد كفر لأنه كذّب الله ورسوله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وهذا يقول: أنا أعلم مع الله، فيكون قد كذّب الله وكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله هذا، وتكذيب الله وتكذيب الرسول من الكفر بمكان.
لكن يرد عندنا إشكال هنا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان نبي من الأنبياء يخط خطاً فيخبر بغيب فمن وافق خطه خط هذا النبي فذاك)، فكان نبي من الأنبياء يخط خطاً، إذاً: هذا طرق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من وافق خطه خط النبي فذاك.
والجواب على هذا الإشكال: أن هذه مسألة تعجيزية، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلق على مستحيل، فبعد أن بين لهم أن الطرق من الشرك أخبرهم أن هناك نبياً كان يخبر بغيب عاملاً بقول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى} [الجن:27] و (إلا) هنا للاستثناء، فهذا النبي الذي خط الخط قد ارتضى الله أن يعلمه شيئاً من الغيب ووسيلة معرفة هذا الغيب عن طريق الخط، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن فعل هذا النبي كان بوحي وأما أنتم فما عندكم وحي، فمن وافق خطه خط النبي ولن يوافق بحال من الأحوال -وهذا هو المحذوف المقدر هنا- لأن غير النبي يضرب الخط بشكل عشوائي بينما النبي يضربه بوحي من الله، وهذه نظيرها في الشرع قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40]، فعلقها الله على مستحيل، فلو دخل الجمل في خرم الإبرة فعندئذ للكافر أن يدخل الجنة، فمفهوم هذا القول أن الكافرين لن يدخلوا الجنة أبداً.
مثال آخر من الشرع وهو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، هنا يأمر الله عز وجل نبينا أن يقول: لو كان عيسى ابن الله لكان أول من يعبده محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا تعليق بالمستحيل، ومعناها: أنه لا يوجد لله ولد، فهو سبحانه لم يلد ولم يولد، ولكن لو حدث ذلك فأنا أكون أول عابد له، وهذا أيضاً لا يمكن أن يحدث أبداً؛ لأن أشد الخلق توحيداً لله سبحانه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمره الله جل وعلا أن يعلق على المستحيل.
إذاً: معنى الحديث: كان نبي يخط خطاً بوحي من الله وأنى لكم ذلك فعلق الأمر على مستحيل، يعني: أنه محال أن يحدث لكم ذلك.