لقد كان أهل الجاهلية يصرفون العبادة أكثر ما يصرفونها للصالحين، ويعتقدون بأن الصالحين لهم مكانة ووجاهة عند الله، ولهم كلمة على الله حاشا لله، أو لهم حق على الله أنه ولا بد أن يعطيهم هذا الحق، ولذلك فإن الله جل في علاه بين لنا بياناً واضحاً كيف أنهم كانوا يصرفون العبادات لغير الله جل في علاه، فأخبر تعالى عنهم أنهم كانوا يعبدون المسيح عليه السلام، ويصرفون العبادة له ولـ عزير، وللملائكة، ويصفون الملائكة بأنهم إناث الرحمن جل في علاه حاشا لله ذلك! قال الله تعالى مبيناً لنا ما كان عليه أهل الجاهلية من صرف العبادات لغير الله جل في علاه، ويزعمون حماقة وسخفاً أنهم يتعبدون لله بذلك، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:56 - 57] فهنا يبين لهم الله جل في علاه أن الذين يدعونهم يبتغون إلى الله الوسيلة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن، فأسلم نفر الجن وما زال الإنس يعبدونهم من دون الله جل في علاه.
فالله جل في علاه بين الحقائق للجن، فاتبعوا رسوله واتبعوا هداه ووحدوه، وأهل الكفر من البشر ما زالوا على الكفر، وما زالوا على الإلحاد: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)) أي: أولئك النفر من الجن الذين يدعونهم من دون الله جل في علاه هم الآن يوحدون الله حق توحيده، ويبتغون إليه الوسيلة، وهؤلاء الإنس ما زالوا على جهلهم وكفرهم وإلحادهم: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)).
قال ابن عباس رضي الله عنه: كانوا يدعون عيسى من دون الله جل في علاه، وكانوا يدعون عزيراً من دون الله جل في علاه، فقال الله تعالى: ((أُوْلَئِكَ)) يعني: عيسى وعزيراً والجن الصالحين، ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)).
وأيضاً كانوا يدعون الملائكة ويصفونهم بأنهم إناث الرحمن، ويقولون عنهم: إنهم سيشفعون لنا عند ربنا، وذلك جرياً منهم على القاعدة التي قعدوها وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] لأنهم كانوا يعتقدون اعتقاداً صحيحاً في الله، وهو أنه هو الرب الخالق الرازق، ولا يعتقدون أن الملائكة تخلق وترزق، ولا يعتقدون في الأولياء الصالحين مثل عيسى وموسى أو غيرهم من الأنبياء والصالحين أنهم يمتلكون شيئاً في الكون، فلا يعتقدون هذا الاعتقاد، بل كانوا يعتقدون أن الله هو المدبر، ومع ذلك يصرفون العبادة لغير الله، فقعدوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فهم يدعون الملائكة ليشفعوا لهم عند الله جل في علاه، قال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117]، فهم يدعون الملائكة الإناث، ويقولون: هؤلاء الملائكة سيشفعون لنا عند الله بتقربنا بهم إلى الله جل في علاه.
وأيضاً كانوا يعبدون اللات والعزى، ويعتقدون بأن اللات والعزى ستشفع لهم عند الله جل في علاه.
فهذا النضر بن الحارث كان من أشد الكفار عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سئل لم تعبد اللات والعزى؟ فيقول: إن اللات ستشفع لي عند الله، والعزى سيشفع لي عند الله، ولذلك قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20].
بل لو نظرنا نظراً بعيداً إلى قوم نوح فإننا نجد أن الصلحاء في قوم نوح صور لهم الجهال التصاوير بعد موتهم، ومثلوا لهم التماثيل، وبنوا على قبورهم زاعمين أنهم إذا نظروا إلى هذه القبور وهذه التصاوير اجتهدوا اجتهاداً كبيراً في عبادة الله جل في علاه، فلما اندثر العلم جاء الشيطان فأغوى الأغرار والأغمار الذين لا يعلمون عن دين الله شيئاً، فقالوا: والله إن أسلافنا كانوا يعبدون هؤلاء، ويتقربون بهم إلى الله جل في علاه، فعبدوهم من دون الله جل في علاه.
فهذه هي أفعال أهل الجاهلية الشركية، وما نبع ذلك إلا من الجهل العميق.