واجب المحكومين هو السمع والطاعة للحكام وعدم شق عصا طاعتهم

لما أسس النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأساس بين حق الراعي وحق الرعية، وحق الأمير وحق المأمور، وحق الحاكم وحق المحكوم، فالدين ليس بالهوى أو العاطفة، وليس بالموتورين أو المتحمسين، وإنما هو شرع الله جل في علاه، فإذا قال الله، قلنا: سمعنا وأطعنا، وإذا لم يقل الله قلنا: لا قول لأحد علينا إلا بقال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فنصب النبي صلى الله عليه وسلم هذا التقعيد وهذا التقسيم ليكون إلى آخر الدنيا، ففيه الانتصار والوفاء، وفيه أن نجتمع جميعاً وننضوي تحت راية أمير وحاكم.

ثم جعل له حقوقاً وجعل للمحكوم حقوقاً، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يحب على المحكوم حتى ولو أخذت حقوقه أن يؤدي الذي عليه ويسأل الله ما له، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وهذه آية صريحة في تنصيب الولاة والسمع والطاعة لهم، وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، ويسرنا وعسرنا، وعلى أثرة علينا)، يعني: ولو حدث من الحكام أو الأمراء ما يضر بالمحكومين فليس لهم إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، ويسألوا الله ما لهم، ولا يلجئوا إلى أن يشقوا عصا الطاعة، فهذا هو ديننا وهذا هو شرع الله جل في علاه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث قال الراوي: (السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، ويسرنا وعسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله)، ثم قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، وسيأتي تفصيل هذا.

والحديث الثاني أيضاً في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).

فقوله: (كأن رأسه زبيبة): فيه دلالة على أنه يسمع ويطاع للحاكم حتى وإن كان وضيعاً غير نسيب أو حسيب، فما عليك إلا أن تقول: سمعت وأطعت، فمن أطاع الأمير فقد أطاع رسول الله، ومن أطاع رسول الله فقد أطاع الله جل في علاه، ومكمن هذه الطاعة: أن تعلم أنك لا تسمع أو تطيع من أجل الشخص نفسه أو من أجل الحاكم نفسه لا والله! فأنت لا تسمع أو تطيع إلا من أجل رضا الله جل في علاه، فإن الملائكة سجدوا لآدم مع أن السجود هو غاية الذل والخضوع ائتماراً بأمر الله تعالى لا سواه، فكذلك أنت لا تسمع أو تطيع لأجل فلان من البشر بل من أجل الله جل في علاه، فهو الذي قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وظاهر الأمر يفيد الوجوب، وفي الرواية الأخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند: (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي)، كما أسلفنا الذكر.

وفي حديث آخر عن وائل بن حجر في مسلم قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت أمراءنا يأخذون ويطلبون ما لهم -يعني: يأخذون حقوقهم، ويطلبون ما لهم- ولا يعطوننا ما لنا، ماذا نفعل معهم؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه، فجاءه في الثانية، فقال: يا رسول الله! أرأيت أمراءنا يأخذون ما لهم ولا يعطونا ما لنا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له في الثالثة: (عليك بالسمع والطاعة)، أو قال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم)، فسيسألهم ربهم على كل فلس ودرهم، وسيسألهم ربهم عن كل صغيرة وكبيرة، وعن كل دقيقة وجليلة.

وهذا الذي أقلق مضجع عمر بن الخطاب حتى إنه عند موته يوم أن سقوه اللبن وخرج من معدته دخل عليه شاب مسبل الإزار، فنظر إلى عمر فأخذ يبكي ويقول: أبشر يا أمير المؤمنين! والله لقد كنت خير صاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت خير صاحب لخليفته أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكنت في إمارتك كذا وكذا وكذا، وفتح الله على يدك مشارق الأرض ومغاربها، قال: تقول ذلك عند ربك إذا سألك؟ قال: نعم، أقول ذلك، قال: وتشهد بهذا؟ قال: أشهد بهذا، ثم بكى عمر بن الخطاب وقال: يا ليتها كانت كفافاً لا لي ولا علي؛ لأنه علم أن المسألة ليست بالهينة، فسيسأل عن كل فرد، وعن كل جنين، وعن كل امرأة، وعن كل رجل، ولذلك كان ابن عباس أحب الناس إلى عمر مع صغر سنه؛ لقوة علمه وعارضته، وكان ابن عباس يحب عمر جداً، فلما مات عمر قال: دعوت الله عاماً كاملاً أن أرى عمر في رؤيا، فرآه في المنام يتصبب عرقاً بعد عام، فقال له: يا أمير المؤمنين! أو قال له: يا عمر! ما فعل الله بك؟ قال: الآن انتهيت من السؤال والحساب.

ولذلك نصح النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم)، وفي رواية أخرى: (سل الله ما لك، وأعط ما عليك) أي: ما عليك من السمع والطاعة.

وقال بعضهم: إن الله طلب منكم الاستقامة والنفس تطلب الكرامة، فانشغلوا بالاستقامة تأتكم الكرامة، وهو قول مستقى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه المطابقة والمقارنة بين هذا الكلام وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنكم خلقتم لأمر، وأمركم الله بأمر، فانشغلوا بما أمركم الله جل في علاه ولا تنشغلوا بطلب أنفسكم؛ لأنكم لا تريدون منهم إلا حقكم أنتم.

ولذلك قال الذي استقى من مشكاة النبوة: إن الله أمر بالاستقامة والنفس تطلب الكرامة، فمن انشغل بالاستقامة أتته الكرامة لزاماً، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: التزموا السمع والطاعة فعليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم، فأنتم تسألون عن الأمر الذي عليكم وهو السمع والطاعة، وهم سيسألون على ما يؤدونه لكم، وسيأتيكم ما تريدونه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015