صور من حياة الجاهلية تبين عدم طاعة الجاهليين لأمرائهم

إن أهل الجاهلية كانوا يأخذون دينهم من آرائهم وأهوائهم، فقد كانوا متشرذمين لا يدينون ولا ينظمون تحت راية أحد، ولا يأتمرون بأمر أحد، بل هم كسنن الذين من قبلهم يقاتلون من أجل الإمارة ويقتلون أميرهم، وما حرب البسوس منا ببعيد، هذه الحرب التي حدثت فيها المقتلة العظيمة بين أبناء العمومة، فقد كان وائل بن ربيعة وهو كليب أميراً عليهم بعد أن قتل ملك اليمن، ثم جاءت البسوس هذه بكيد منها حتى أوقعت الشحناء بين أبناء العمومة، فقتل جساس بن مرة كليباً، ثم حدثت الحرب العظيمة بين أبناء العمومة حتى أوشكوا على الفناء في تلك المعركة، فمع أنهم ملكوه إلا أنهم لم يسمعوا له ولم يطيعوا ولم يأتمروا بأمره، وهذا دأب أهل الجاهلية، وسنن الذين من قلبهم، فاليهود والنصارى جعل لهم الله جل في علاه الأنبياء والرسل حتى يسوسوهم فلم يوافقوا ولم يسمعوا ولم يطيعوا لأنبيائهم، والله جل في علاه صور لنا هذه الأخلاقيات الفاسدة عند بني إسرائيل في كتابه في أبدع صورة حينما قال: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247]، ثم بعدما بين لهم الأسباب وأن الله زاده بسطة في العلم والجسم نهاهم عن الشرب من النهر، فأبوا إلا أن يشقوا عصا الطاعة، وشرب أغلبهم من النهر أو كلهم إلا من رحم الله جل في علاه! وكان أهل الجاهلية كذلك، فقد تشرذموا وتقطعوا ولم يأتمروا بأمير، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليؤسس صرحاً عظيماً، ويقعد قاعدة وركناً ركيناً، ويبين أن من تمسك بذلك فقد ارتقى ووقي وكفي وهدي وسما وعلا، وأن من لم يتمسك بذلك فكأنما تخطفته الطير أو هوت به الريح في مكان سحيق.

وهذا التأسيس والتأصيل هو الذي أصله رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما خرجت قريش عليهم، وقد كان يعلم أنهم لا ينضوون تحت راية أحد، ولا يسمعون لأحد، وأروع ما يضرب في ذلك هو عتبة بن ربيعة في غزوة بدر، وذلك يوم أن هرب أبو سفيان بالعير، فسمع به عتبة بن ربيعة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أطاعوه لفازوا)، فلأنهم لما لم يأتمروا بأمير ولم ينضووا تحت راية أمير تشرذموا وفشلوا وذهبت ريحهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أخذوا بقول صاحب الجمل الأحمر لنجوا)، وصاحب الجمل الأحمر هو عتبة، وقد قال لهم عتبة: أيها الناس! إنكم ما خرجتم إلا للعير، وقد أنقذت العير، فاعصبوها برأسي، وقولوا: جبن عتبة، يعني: أن الأمر والمسبة كلها ليست إليكم، بل اجعلوها علي بدلاً من أن يقتل الأخ أخاه والأب ابنه والابن أباه، وكان رجلاً ذا فصاحة وذكاء، فلما قال لهم ذلك جاء العربيد الفاجر أبو جهل وقال: لا والله! بل نشرب الخمر، وندق الطبول حتى تسمع بنا العرب أنا قد خرجنا لقتال محمد، فحدثت هذه المقتلة.

والغرض المقصود: أنهم لم ينضووا تحت راية أمير، ولم يأتمروا بقول أمير أو بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم ذلك منهم بين أن التأسيس الذي سيأتي لا بد من التمسك به وأن يعض المرء عليه بالنواجذ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف أهل الجاهلية ويخالف قريشاً لما رأى منهم ذلك، وكأنه يقول: ماذا ترون طاعتي فيكم؟ فقالوا: طاعتك من طاعة الله، بمعنى: أن من أطاع رسول الله فقد أطاع الله، وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، جل في علاه! فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)، ولذلك أسس النبي صلى الله عليه وسلم من هنا هذا الأساس وهذا الأصل وهذا الركن الركين الذي لا بد أن نتمسك به ونعقله ونعرف فقهه حتى نعمل به فنرتقي كما ارتقوا.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعث سرية ولا جيشاً قط إلا وأمر أميراً عليهم، وأمره بتقوى الله في ذات نفسه ومن معه، وأمر جنده بالسمع والطاعة، حتى إنه قال: (إن كنتم ثلاثة في سفر فلتأمروا أحدكم).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015