أَحَدًا بَعْدَكَ) أَيْ قَوْلًا جَامِعًا لَا أَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى سُؤَالِ أَحَدٍ بَعْدَ سُؤَالِكِ هَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] أَيْ مِنْ بَعْدِ إِمْسَاكِهِ (- وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَكَ -) أَيْ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، وَالْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا بَعْدَ سُؤَالِهِ لَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ، وَكَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ أَوْلَوِيَّةِ الْأَوَّلِ فَجَعَلَهُ أَصْلًا، وَالثَّانِي رِوَايَةٌ خِلَافًا لِمَا فَعَلَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ (قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ) أَيْ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ (ثُمَّ اسْتَقِمْ) هَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] يَعْنِي عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] الْآيَاتِ.
فَالتَّوْحِيدُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَالطَّاعَةُ بِأَنْوَاعِهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: (ثُمَّ اسْتَقِمْ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ امْتِثَالُ كُلِّ مَأْمُورٍ وَاجْتِنَابُ كُلِّ مَحْذُورٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، إِذْ لَا تَحْصُلُ الِاسْتِقَامَةُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الِاعْوِجَاجِ، وَلِذَا قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: الِاسْتِقَامَةُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كَرَامَةٍ، أَوْ نَقُولُ آمَنْتُ بِاللَّهِ شَامِلٌ لِلْإِتْيَانِ بِكُلِّ الطَّاعَاتِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَقِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّبَاتِ فِيهِمَا، وَلِعَظَمَةِ أَمْرِ الِاسْتِقَامَةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ» ) ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَهِيَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ. وَقَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ مَعَ كَوْنِ الْمَدْعُوِّ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَمْرٌ صَعْبٌ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي عَلَى بَصِيرَةٍ يَرَى أَنَّهُ يَدْعُوهُ مِنِ اسْمٍ إِلَى اسْمٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ آيَةٌ كَانَتْ أَشَدَّ وَلَا أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا قَالُوا لَهُ: قَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ: ( «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» ) . وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ أَمْرٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ لِشُمُولِهَا الْعَقَائِدَ بِأَنْ يَجْتَنِبَ التَّشْبِيهَ وَالتَّعْطِيلَ، وَالْأَعْمَالَ بِأَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالْأَخْلَاقَ بِأَنْ يَبْعُدَ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الصِّرَاطِ فِي الدُّنْيَا صَعْبٌ كَالْمُرُورِ عَلَى صِرَاطِ جَهَنَّمَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ اهـ. وَمِمَّا يَزِيدُ صُعُوبَةَ هَذَا الْمَرْقَى خَبَرُ (اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا) أَيْ وَلَنْ تَطِيقُوا أَنْ تَسْتَقِيمُوا حَقَّ الِاسْتِقَامَةِ، وَلَكِنِ اجْتَهِدُوا فِي الطَّاعَةِ حَقَّ الْإِطَاعَةِ، فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَظُنُّ بِنَفْسِهِ الِاسْتِقَامَةَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ صِفَةِ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، فَيَقَعُ فِي الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَقْبَحُ مِنْ كُلِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَلَامَةُ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ.
وَقَدْ يُقَالُ: السِّينُ لِطَلَبِ الْقِيَامِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ فِي جَمِيعِ السَّاعَاتِ إِلَى الْمَمَاتِ، ثُمَّ قَدْ يُقَالُ: الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ الْإِطَاقَةِ عَلَى دَوَامِ الْإِطَاعَةِ أَنَّ تُرَابَ الْإِنْسَانِ عُجِنَ بِمَاءِ النِّسْيَانِ النَّاشِئِ عَنْهُ الْعِصْيَانَ؛ وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «كُلُّكُمْ خَطَّاءُونَ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» ) فَجِنْسُ الْإِنْسَانِ كَنَوْعِ النِّسْوَانِ الَّتِي خُلِقْنَ مِنَ الضِّلَعِ الْأَعْوَجِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُنَّ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى صِفَةِ الْإِدَامَةِ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَلَا يَزُولُ طَبْعٌ عَمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ هَذَا، وَلَفْظَةُ (ثُمَّ) مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ أَفْضَلُ مِنْ قَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ؛ لِشُمُولِهَا الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ. ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْإِمَامُ، وَهِيَ لُغَةً ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ أَيِ الِاسْتِوَاءِ فِي جِهَةِ الِانْتِصَابِ، وَتَنْقَسِمُ إِلَى اسْتِقَامَةِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الِاقْتِصَادُ فِي غَيْرِ مُتَعَدٍّ مِنْ مَنْهَجِ السُّنَّةِ، وَلَا مُتَجَاوِزٍ عَنْ حَدِّ الْإِخْلَاصِ إِلَى الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ رَجَاءِ الْعِوَضِ، أَوْ طَلَبِ الْغَرَضِ، وَاسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ وَهِيَ الثَّبَاتُ عَلَى الصَّوَابِ، وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ هِيَ اسْتِوَاءُ الْقَصْدِ فِي السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَثَبَاتُ الْقُوَى عَلَى حُدُودِهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ دُونَ الِاسْتِقَامَةِ فِي السَّيْرِ فِي اللَّهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ فِي الطَّرِيقِ وَالسُّلُوكِ إِلَيْهِ بِأَحَدَيْهِ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَمَّا السَّيْرُ فِي اللَّهِ فَهُوَ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِهِ، وَالِاسْتِقَامَةُ فِي اللَّهِ