قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكُلُّ مَا جَاءَ مِنْ أَنَّهُ يُخَيِّلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ، فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّخَيُّلِ بِالْبَصَرِ لَا بِالْعَقْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَطْعَنُ بِالرِّسَالَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَأَمَّا مَا زَعَمُوا مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ فِي الشَّرْعِ بِأَنْبِيَائِهِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا يَعْمَلُ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَهُمْ بَشَرٌ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ مَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي أَبْدَانِهِمْ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقَتْلِ، وَتَأْثِيرُ السُّمِّ وَعَوَارِضِ الْأَسْقَامِ فِيهِمْ، وَقَدْ قُتِلَ زَكَرِيَّا وَابْنُهُ، وَسُمَّ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا أَمْرُ الدِّينِ فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَرْصَدَهُمْ لَهُ، وَهُوَ جَلَّ ذِكْرُهُ حَافِظٌ لِدِينِهِ وَحَارِسٌ لِوَحْيِهِ أَنْ يَلْحَقَهُ فَسَادٌ وَتَبْدِيلٌ بِأَنْ لَا يَطُولَ ذَلِكَ، بَلْ يَزُولَ سَرِيعًا، وَكَأَنَّهُ مَا حَلَّ، وَفَائِدَةُ الْحُلُولِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَعَلَى أَنَّ السِّحْرَ تَأْثِيرُهُ حَقٌّ، فَإِنَّهُ إِذَا أَثَّرَ فِي أَكْمَلِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ غَيْرُهُ؟ (حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ) : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، لَكِنَّ الرَّفْعَ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهَا (عِنْدِي، دَعَا اللَّهُ وَدَعَاهُ) ، كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ التَّكْثِيرِ أَيْ: وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَتَى عَقِبَ دُعَائِهِ بِدُعَاءٍ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ، وَحُسْنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
(ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ) أَيْ: أَعَلِمْتِ (يَا عَائِشَةُ! أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي) أَيْ: بَيَّنَ لِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ أَيْ فِيمَا طَلَبْتُ بَيَانَ الْأَمْرِ مِنْهُ، وَكَشْفَهُ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (جَاءَنِي رَجُلَانِ) أَيْ: مَلَكَانِ عَلَى صُورَةِ رَجُلَيْنِ (جَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ (ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ) ؟ أَيْ مَا سَبَبُ تَعَبِهِ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ وَجَعِهِ (قَالَ: مَطْبُوبٌ) . أَيْ هُوَ مَسْحُورٌ، يُقَالُ: طُبَّ الرَّجُلُ إِذَا سُحِرَ، فَكَنَّوْا بِالطَّبِّ عَنِ السِّحْرِ، كَمَا كَنَّوْا بِالسَّلِيمِ عَلَى اللَّدِيغِ. (قَالَ) أَيِ: الْآخَرُ (وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ) . قِيلَ أَيْ: بَنَاتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] أَيِ النِّسَاءِ أَوِ النُّفُوسِ السَّوَاحِرِ الَّتِي يَعْقِدْنَ عُقَدًا فِي خُيُوطٍ وَيَنْفُثْنَ عَلَيْهَا، وَالنَّفْثُ النَّفْخُ مَعَ رِيقٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَتَخْصِيصُهُ بِالتَّعَوُّذِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ يَهُودِيًّا سَحَرَ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً فِي وَتَرٍ دَسَّهُ فِي بِئْرٍ، فَمَرِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ، وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِمَوْضِعِ السِّحْرِ، فَأَرْسَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَاءَ بِهِ فَقَرَأَهُمَا عَلَيْهِ، فَكَانَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَوَجَدَ بَعْضَ الْخِفَّةِ» ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ صِدْقَ الْكَفَرَةِ فِي أَنَّهُ مَسْحُورٌ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ بِوَاسِطَةِ السِّحْرِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى، فَإِنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوُقُوعِ نَوْعَيْنِ مِنَ السِّحْرِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ. وَإِنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَعَ مِنْ لَبِيدٍ، وَالْآخَرُ مِنْ بَنَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ) أَيِ: الْآخَرُ (فِي مَاذَا) ؟ أَيْ سُحِرَ فِي أَيِّ شَيْءٍ (قَالَ: فِي مُشْطٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمُشْطُ مُثَلَّثَةٌ وَكَكَتِفٍ وَعُنُقٍ وَعُتُلٍّ وَمِنْبَرٍ آلَةٌ يُمْتَشَطُ بِهَا (وَمُشَاطَةٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ مَا سَقَطَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوِ اللِّحْيَةِ عِنْدَ تَسْرِيحِهِ بِالْمُشْطِ (وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ) ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ، وَطَلْعَةِ ذَكَرٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَأَرَادَ بِالذَّكَرِ فَحْلَ النَّخْلِ، قِيلَ: وَيُرْوَى جُبِّ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: دَاخِلِ طَلْعَةِ ذَكَرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجُفُّ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْفَاءِ، هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ بِلَادِنَا. وَفِي بَعْضِهَا جُبٌّ بِالْبَاءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَلِهَذَا أَضَافَ فِي الْحَدِيثِ طَلْعَةَ إِلَى ذَكَرٍ إِضَافَةَ بَيَانٍ. (قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِمَّا سُحِرَ بِهِ (قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) : بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. قَالَ شَارِحٌ: وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ. قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّ أَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ أَشْهَرُ مِنْ ذَرْوَانَ، وَذَرْوَانُ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ بُنِيَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ، قُلْتُ: فَذَرْوَانُ أَوْفَقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي مُعْظَمِهَا