" {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] "، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّجَرَةَ السَّابِقَةَ كَذَلِكَ مَعَ احْتِمَالٍ بَعِيدٍ أَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهَا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، لَكِنَّهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ خِلَافُ التَّأَدُّبِ مَعَ الشَّيْخِ الْمُفَسَّرِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّ الشَّجَرَتَيْنِ كَانَتَا بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ وَالْمِعْرَاجِ لِلصُّعُودِ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ) أَيْ: مِنْهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ. يَعْنِي: مِنَ الدَّارِ الْأُولَى وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ سُفْلِيَّةً وَعُلْوِيَّةً، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ أَعْلَى فَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْأَدْنَى (فِيهَا) أَيْ: فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ (شُيُوخٌ وَشَبَابٌ) ، وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، إِمَّا لِقِلَّةِ كَمَالِهِمْ كَمَالَ الرِّجَالِ، أَوْ لِقِلَّةِ وُجُودِ الْكَمَالِ فِيهِنَّ بِخِلَافِ الرِّجَالِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» ". عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ عَنْ بَيَانِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ وُجِدُوا فِيهَا فَيَكُونُ بِالتَّبَعِيَّةِ لَا بِالْأَصَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقُلْتُ لَهُمَا: إِنَّكُمَا قَدْ طَوَّفْتُمَانِي) : بِالْمُوَحَّدَةِ وَقِيلَ بِالنُّونِ، أَيْ: دَوَّرْتُمَانِي وَفَرَّجْتُمَانِي (اللَّيْلَةَ) : وَقَدْ رَأَيْتُ أَشْيَاءَ غَرِيبَةً وَأُمُورًا عَجِيبَةً بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ (فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ) أَيْ: تَفْصِيلًا وَتَفْسِيرًا (فَقَالَا: نَعَمْ) . فِي الْمُغْنِي: نَعَمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكِنَانَةُ تَكْسِرُهَا، وَبِهَا قَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَبَعْضُهُمْ يُبْدِلُهَا هَاءً، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهِيَ حَرْفُ تَصْدِيقٍ وَوَعْدٍ وَإِعْلَامٍ، فَالْأَوَّلُ بَعْدَ الْخَبَرِ كَقَامَ زَيْدٌ، وَالثَّانِي بَعْدَ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، وَالثَّالِثُ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ: (" {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] ") ، (" إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ") وَلَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ مَعْنَى الْإِعْلَامِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ قَالَ: وَأَمَّا نَعَمْ فَعِدَةٌ وَتَصْدِيقٌ (أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُقْطَعُ (شِدْقُهُ) أَيْ: طَرَفُ فَمِهِ إِلَى قَفَاهُ (فَكَذَّابٌ) ، أَيْ: فَهُوَ كَثِيرُ الْكَذِبِ (يُحَدِّثُ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِقُبْحِ فِعْلِهِ (بِالْكَذْبَةِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ لِلْمَرَّةِ وَبِكَسْرِ أَوَّلِهَا لِلنَّوْعِ (فَتُحْمَلُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: فَتُرْوَى وَتُنْقَلُ تِلْكَ الْكِذْبَةُ عَنْهُ (حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ) أَيْ: حَتَّى تُنْشَرَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ (فَيُصْنَعُ) أَيْ: لِذَلِكَ (مَا تَرَى) أَيْ: مَا رَأَيْتَ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيْ: صُنْعًا مُسْتَمِرًّا (وَالَّذِي) أَيْ: وَأَمَّا الَّذِي (رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ) أَيْ: وَفَّقَهُ لِتَعَلُّمِهِ (فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ) أَيْ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي اللَّيْلِ وَإِنَّمَا خُصَّ بِهِ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا - إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل: 6 - 7] ، (وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ بِالنَّهَارِ) ، أَيْ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} [العنكبوت: 45] أَيِ اقْرَأْ وَاتَّبِعْ (يُفْعَلُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ مَعَ مَا أُعْطِيَ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ، وَهِيَ عِلْمُ الْقُرْآنِ كَانَ غَافِلًا عَنْ تَأْوِيلَاتِهِ، وَرُبَّمَا جُرَّ إِلَى نِسْيَانِهِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَمْ يَكُنْ عَامِلًا بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَلِذَا وَرَدَ مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ دَائِمًا يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ، وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ دَائِمًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ أَبَدًا.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ فَنَامَ عَنْهُ، أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهُ. وَعَنْ هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] أَيْ: سَاهُونَ سَهْوَ تَرْكٍ لَهَا، وَقِلَّةَ الْتِفَاتٍ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَسَقَةِ. قُلْتُ: وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَيْثُ مَا قَالَ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، قَالَ: فَمَعْنَى نَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ: أَنَّهُ لَمْ يَتْلُهُ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَيَذَرَ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِثْلَ الْمُنَافِقِينَ وَالْفَسَقَةِ، فَإِذَا كَانَ حَالُهُ بِاللَّيْلِ هَذَا فَلَا يَقُومُ بِهِ فَيَعْمَلُ بِالنَّهَارِ بِمَا فِيهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا مَنْ نَامَ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَتَجَافَى عَنْهُ لِتَقْصِيرٍ أَوْ عَجْزٍ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ اهـ.