(كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفِي الشَّمَائِلِ: حَتَّى كَانَ وَهِيَ غَايَةٌ لِيُكْثِرَ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: (ثَوْبَهُ) : أَيْ قِنَاعَهُ (ثَوْبُ زَيَّاتٍ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ بَائِعِ الزَّيْتِ أَوْ صَانِعِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِثَوْبِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى بَدَنِهِ لِإِكْثَارِ دَهْنِهِ وَلِمُلَابَسَةِ قِنَاعِهِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَنْظَفَ النَّاسِ ثَوْبًا، وَأَحْسَنَهُمْ هَيْئَةً، وَأَجْمَلَهُمْ سَمْتًا، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْلِحُوا ثِيَابَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالشَّامَةِ بَيْنَ النَّاسِ» ". وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ: كَانَ مِلْحَفَتُهُ مِلْحَفَةَ زَيَّاتٍ، أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ التَّقَنُّعَ بِثَوْبٍ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ أَوْ دَهَّانٍ» ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ هَذَا لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقِنَاعِ فَائِدَةٌ، وَلَا لِغَايَةِ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ (ثَوْبُ زَيَّاتٍ) : لِقَوْلِهِ: كَانَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ نَتِيجَةً، بَلْ كَانَ الْمُنَاسِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ، هَذَا وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الْمُظْهَرِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَكَأَنَّهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْقِنَاعِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِثَوْبِهِ ثَوْبُهُ الْخَاصُّ الْمُسْتَعْمَلُ لِلدَّهْنِ لَا مُطْلَقَ ثَوْبِهِ، فَتَأَمَّلْ لِيَرْتَفِعَ الْخَلَلُ، لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي إِكْثَارِ الدُّهْنِ مَعَ التَّشْبِيهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (كَأَنَّ) يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ اللَّابِسَ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِنَاعَ الَّذِي يُغَطَّى بِهِ الْمَدْهُونُ يُشْبِهُ ثَوْبَ الزَّيَّاتِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ثَوْبُهُ عَلَى ثَوْبٍ خَاصٍّ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي لَابَسَهُ حِينَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخِلَّ بِالنَّظَافَةِ، بَلْ كَانَ يَقْلَعُهُ وَيَلْبَسُ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهُ خَادِمُهُ الْمَخْصُوصُ بِهِ الْمُطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَهَذَا التَّجْوِيلُ أَتَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ مَعَ إِيرَادِهِ فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَعْفِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَشَمَائِلِهِ، وَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، فَلَا يَضُرُّ مَا قَالَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ أَحَدِ رُوَاةِ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ، أَنَّهُ كَانَ عَابِدًا، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، وَعَدُّوا مِنْ مَنَاكِيرِهِ قَوْلَهُ: كَانَ ثَوْبُهُ ثَوْبَ زَيَّاتٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ خِلَافُ عَادَتِهِ مِنَ النَّظَافَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَأْوِيلَهُ، فَارْتَفَعَ وَجْهُ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ قَرَّرَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْفَاسِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.