بِأَعْيَانِهِمْ فِي كِتَابَيْهِمَا، أَوْ كِتَابِ أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا قَالَ صَحِيحٌ فَحَسْبُ، وَمُخَالَفَتُهُ لِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تُحْمَلُ عَلَى الذُّهُولِ، هَذَا، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ لَوْ لَمْ يَكْتَفِ الْمُصَنِّفُ بِهِمَا، وَذَكَرَ فِي كُلٍّ حَدِيثَ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ رَوَاهُ كَانَ أَوْلَى، وَأَنْسَبَ، وَأَحْرَى، وَأَصْوَبَ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الصِّحَّةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِمَا لَكِنْ فِي التَّرْجِيحِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ السِّتَّةُ مَثَلًا لَا شَكَّ فِي تَرْجِيحِهِ عَلَى الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يُخْرِجْهُ غَيْرُهُمَا.
(وَثَانِيهَا) أَيْ: ثَانِي الْفُصُولِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْمَصَابِيحِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْحِسَانِ (مَا أَوْرَدَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ) ، وَهُمْ: أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ ; فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْمَصَابِيحِ لَا تَتَجَاوَزُ عَنْ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، وَأَكْثَرُهَا صِحَاحٌ.
(وَثَالِثُهَا) : وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَصْلِ الثَّالِثِ (مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى الْبَابِ) أَيْ: عَلَى مَعْنًى عُقِدَ لَهُ الْبَابُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْكِتَابِ (مِنْ مُلْحَقَاتٍ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ لِمَا اشْتَمَلَ (مُنَاسِبَةٍ) : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: مُشَاكِلَةٍ، وَهِيَ صِفَةُ مُلْحَقَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا زِيَادَاتٌ أَلْحَقَهَا صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ عَلَى وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ بِكُلِّ كِتَابٍ وَبَابٍ غَالِبًا لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَعُمُومِ الْعَائِدَةِ (مَعَ مُحَافَظَةٍ عَلَى الشَّرِيطَةِ) أَيْ: مِنْ إِضَافَةِ الْحَدِيثِ إِلَى الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى مُخْرِجِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ. وَلَمَّا كَانَ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ مُلْتَزِمًا لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي كِتَابِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَلَمْ يَلْتَزِمِ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَإِنْ كَانَ) أَيِ: الْمُشْتَمِلُ (مَأْثُورًا) أَيْ: مَنْقُولًا، وَمَرْوِيًّا (عَنِ السَّلَفِ) أَيِ: الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ (وَالْخَلَفِ) أَيِ: الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُمُ التَّابِعُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ السَّلَفِ عَلَى الْخَلَفِ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ سَهْوًا مِنْ تَقْدِيمِ الْخَلَفِ عَلَى السَّلَفِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ، وَلِتَوْجِيهِهِ تَكَلُّفٌ، وَقَالَ: الْخَلَفُ هُمْ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ الَّتِي أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: ( «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ) ، وَقَدَّمَهُمْ مَعَ أَنَّ رُتْبَتَهُمُ التَّأْخِيرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ هَذَا الْحَدِيثُ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ أَنْسَبُ بِالْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالْمَأْثُورِ عَنْهُمْ فَمَا عَنِ السَّلَفِ أَوْلَى اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَقْدِيمِ الْخَلَفِ عَلَى السَّلَفِ، نَعَمْ، لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَلَفِ، وَنَقَلَ فِي كِتَابِهِ عَنِ السَّلَفِ - لَكَانَ يُوَجَّهُ بِهَذَا التَّوْجِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالسَّلَفِ، وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ الْأُمَّةِ بِشَهَادَةِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْخَلَفِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا ضَعِيفَةٌ، أَوْ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَزِيَّةً مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مُرِّ الْحَقِّ فِي زَمَنِ الْجَوْرِ الصِّرْفِ، وَالْمَفْضُولُ قَدْ تُوجَدُ فِيهِ مَزِيَّةٌ بَلْ مَزَايَا لَا تُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: أَيُّمَا أَفْضَلُ مُعَاوِيَةُ، أَوْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؟ فَقَالَ: الْغُبَارُ الَّذِي دَخَلَ فِي أَنْفِ فَرَسِ مُعَاوِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرٌ مِنْ مِثْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ مَا أَرَادَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بِعَيْنِهَا، وَهِيَ أَنَّ الْخَلَفَ قَدْ يُوجَدُ فِيهِمُ الْكَمَالَاتُ الْعِلْمِيَّةُ، وَالرِّيَاضَاتُ الْعَمَلِيَّةُ، وَالْحَقَائِقُ الْأُنْسَيَّةُ، وَالدَّقَائِقُ الْقُدُسِيَّةُ، وَحَالَاتٌ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ بِحَيْثُ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، كَأَعْرَابِيٍّ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَعْدُ ; فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلَفِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْمَشَايِخِ الْمُعْتَبَرِينَ. وَأَمَّا فَضِيلَةُ نِسْبَةِ الصُّحْبَةِ فَلَا يُنْكِرُ مُؤْمِنٌ شَرَفَهَا، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْسِيرِ فِي عِظَمِ التَّأْثِيرِ. ثُمَّ تَفْسِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى مَا شَرَحَهُ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنْ لَا يُلَائِمُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ ; فَإِنَّهُ مَا يَرْوِي فِي كِتَابِهِ إِلَّا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَسْمَاءُ رِجَالِهِ الْمَحْصُورِينَ فِي ذِكْرِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، فَإِذَا فَسَّرَ السَّلَفَ بِهِمْ فَلَا يَبْقَى لِذِكْرِ الْخَلَفِ مَعْنًى، وَهَذَا خَلَفٌ (ثُمَّ) أَيْ: مَا ذَكَرْتُ أَنِّي الْتَزَمْتُ مُتَابَعَةَ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ فِي كُلِّ بَابٍ (إِنَّكَ) أَيْ: أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي كِتَابِي هَذَا (إِنْ فَقَدْتَ) أَيْ: مِنْ مَحَلِّهِ (حَدِيثًا) أَيْ: مِنْ أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَصَابِيحُ (فِي بَابٍ) : مَثَلًا، أَوْ فِي كِتَابٍ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: مَا وَجَدْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِئَلَّا