وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحِجَابَ الصُّورِيَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ النُّورِيِّ الْمَعْنَوِيِّ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي عَطَاءٍ: الْحَقُّ لَيْسَ بِمَحْجُوبٍ، وَإِنَّمَا الْمَحْجُوبُ أَنْتَ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ حَجَبَهُ شَيْءٌ لَسَتَرَهُ مَا حَجَبَهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ سَاتِرٌ لَكَانَ لِوُجُودِهِ حَاصِرًا وَكُلُّ حَاصَرٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ لَهُ قَاهِرٌ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] ، وَمِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى وُجُودِ قَهْرِهِ سُبْحَانَهُ، أَنْ حَجَبَكَ عَنْهُ بِمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مَعَهُ، وَمِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْجُبَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْجُبَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ قَبْلَ وُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْجُبَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْجُبَهُ شَيْءٌ وَهُوَ أُقَرَبُ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؟ .

وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ أَرَهُ مُخَرَّجًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمَصَابِيحِ لِلسُّلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ قَالَ: فِي (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ) فَسَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ مِيكَائِيلَ، فَجَاءَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، وَشَرُّهَا الْأَسْوَاقُ» .

قَالَ مِيرَك شَاهْ: ثُمَّ رَأَيْتُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ؟ وَأَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ قَالَ: (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ) فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ مِيكَائِيلَ، فَجَاءَ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ وَشَرُّ الْبِقَاعِ الْأَسْوَاقُ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيلَ: [أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ) ، قَالَ: لَا أَدْرَى، قَالَ: (فَسَلْ عَنْ ذَلِكَ رَبَّكَ) قَالَ: فَبَكَى جِبْرِيلُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَمَا لَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ، هُوَ الَّذِي يُخْبِرُنَا بِمَا يَشَاءُ، فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ قَالَ: (فَأَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟) فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: شَرُّ الْبِقَاعِ الْأَسْوَاقُ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْبُلْدَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْبُلْدَانِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ قَالَ: (لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ) فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَبْغَضَ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ الْأَسْوَاقُ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ اهـ.

وَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحُجُبِ لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَتَصْحِيحُ ابْنِ حَجَرٍ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَتَدَبَّرْ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ عَدَدَ السَّبْعِينَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لَا نَفْسَ الْحِجَابِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: ( «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» )

طور بواسطة نورين ميديا © 2015