يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ (وَلَكِنْ أَسْأَلُ رَبِّيَ تَبَارَكَ) ، أَيْ: تَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَتَوَالَى بِرُّهُ (وَتَعَالَى) ، أَيْ: تَرَفَّعَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكِبْرِيَائِهِ، فَالْأَوَّلُ إِثْبَاتٌ لِلنُّعُوتِ الثُّبُوتِيَّةِ، وَالثَّانِي نَفْيٌ لِلصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى لَكِنِّي أَرْجِعُ إِلَى حَضْرَةِ رَبِّي أَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ، (ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ) ، أَيْ: بَعْدَ رُجُوعِهِ (يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي دَنَوْتُ) ، أَيْ: قَرُبْتُ (مِنَ اللَّهِ دُنُوًّا) : فَعُوِّلَ مَصْدَرُ دَنَا (مَا دَنَوْتُ مِنْهُ قَطُّ) : يَعْنِي: أُذِنَ لِي أَنْ أَقْرَبَ مِنْهُ تَعَالَى أَكْثَرَ مِمَّا قَرُبْتُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَعَلَّ زِيَادَةَ تَقَرُّبِهِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ لِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ يَزِيدُ الْمُحِبُّ فِي احْتِرَامِ رَسُولِ الْحَبِيبِ لِأَجْلِ الْحَبِيبِ تَمَّ كَلَامُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَمِنْ وَعْدِهِ تَعَالَى أَيْ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ شِبْرًا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بَاعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَزْدَادُونَ الْعِلْمَ وَالْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ الْمَلَكَ تَرَقِّيهِ فِي الْعِلْمِ وَالْقُرْبِ نَادِرٌ بِخِلَافِ الْبَشَرِ، (قَالَ: (وَكَيْفَ كَانَ) ، أَيْ: دُنُوُّكَ (يَا جِبْرِيلُ!) ، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) ، أَيْ: بَيْنَ عَرْشِهِ (سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ) : ظَاهِرُهُ التَّحْدِيدُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُجُبَ إِنَّمَا تُحِيطُ بِمُقَدَّرٍ مَحْسُوسٍ وَهُوَ الْخَلْقُ، فَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْهُ تَعَالَى بِمَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَقْرَبُ الْمَلَائِكَةِ الْحَافُّونَ بِالْعَرْشِ، وَهُمْ مَحْجُوبُونَ بِنُورِ الْمَهَابَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ، وَأَمَّا الْآدَمِيُّونَ فَمِنْهُمْ مَنْ حُجِبَ بِرُؤْيَةِ النِّعَمِ عَنِ الْمُنْعِمِ، وَبِمُشَاهَدَةِ الْأَسْبَابِ عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حُجِبَ بِالشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ أَوِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوْ بِالْمَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْجَاهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ: الْعِلْمُ حِجَابٌ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَكِنَّهُ نُورَانِيٌّ، فَأَفَادَ أَنَّ الْحَجْبَ عَلَى نَوْعَيْنِ: ظُلْمَانِيٍّ وَضِدِّهِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: مِنْ نُورٍ (فَقَالَ) ، أَيِ: الرَّبُّ ( «شَرُّ الْبِقَاعِ أَسْوَاقُهَا» ) : لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْغَفْلَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ( «وَخَيْرُ الْبِقَاعِ مَسَاجِدُهَا» ) : لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْحُضُورِ وَالطَّاعَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَجَابَ عَنِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْخَيْرِ فَقَطْ تَنْبِيهًا عَلَى بَيْتِ الرَّحْمَنِ وَبَيْتِ الشَّيْطَانِ، قُلْتُ: وَالْأَشْيَاءُ تَتَبَيَّنُ بِأَضْدَادِهَا، (رَوَاهُ) : كَذَا فِي أَصْلِ الْمُصَنَّفِ هُنَا بَيَاضٌ، وَأَلْحَقَ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ الرَّاوِي أَيِ الْمُخَرِّجِ مُلْحَقٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ أَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ لَمْ يُرِدْ تَكْثِيرَ الْحُجُبِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، كَرِوَايَةِ: «سَبْعِينَ حِجَابًا غِلَظُ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ حُمِلَتْ عَلَى رَفْرَفٍ أَخْضَرَ يَغْلِبُ ضَوْءُهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ، حَتَّى وَصَلَتْ لِلْعَرْشِ» ، وَكَرِوَايَةِ: ثُمَّ أَيُّ، بَعْدَ انْقِطَاعِ جِبْرِيلَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ هَذَا مَقَامِي إِنْ جَاوَزْتُهُ احْتَرَقْتُ، زُجَّ بِيَ فِي النُّورِ فَحَرَقَ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ، لَيْسَ فِيهَا حِجَابٌ يُشْبِهُ حِجَابًا، فَهَاتَانِ وَنَحْوُهُمَا هِيَ الَّتِي لَمْ تَثْبُتُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ اهـ.