فبعضهم قيام، وبعضهم نيام، وبعضهم قعود، ومررت بشيخٍ منهم وقد دَهَن رأسَه، والدُّهنُ يَبرق من صَلْعته، وهو جالس مُستقبل القبلة كأنَّه يصلِّي، وتحته حصيرٌ نظيف، فلم أسلِّم عليه، فقال: وأين السلام؟ أترى مَن المجنون أنا أو أنت؟ قال: فاستحييتُ منه، وقلت: سلام عليك، فقال: لو كنت ابتدأتَ بالسَّلام لأوجبتَ علينا حُسْنَ الرَّدّ عليك، ولكنَّا نصرفُ سوءَ أدبك إلى أحسنِ جهاته من العُذْر؛ لأنَّه يقال: للدَّاخل على القوم دَهْشَة، اجلس أعزك الله، وأومأ إلى مَوضع من حصيرٍ يَنفُضه كأنَّه يوسِّع لي، فناداني صاحبي: إيَّاك، فأحجمتُ، ووقفتُ ناحية، وكان معي مِحْبرة، فقال الشيخ: أرى آلة أحد رجلين: إمَّا أن تكون تجالس أصحاب الحديث الأغثاء (?)، أم أصحاب النحو الأدباء؟ ! فقلت: الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازنيَّ؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الذي يقول فيه: [من مجزوء الرمل]
وفتًى من مازنٍ ... ساد أهل البَصْرَه
أمُّه معروفةٌ ... وأبوهُ نَكِرَهْ
فقلت: لا، فقال: أتعرف غُلامًا قد نبغ في هذا العصر له حفظ وذهنٌ، قد برز في النَّحو وجلس مجلسَه؟ قلت: نعم، أنا عينُ الخبير به، قال: فهل أنشدك شيئًا من عبثِ (?) شعره؟ قلت: لا أحسبه يقول الشعر، قال: يا سبحان الله، أليس هو القائل: [من مجزوء الرمل]
حبَّذا ماءُ العناقيد ... بريقِ الغانياتِ
بهما ينبتُ لحمي ... ودمي أيَّ نباتِ
قلت: قد سمعتُه ينشد هذا في مجلس أُنسه، فقال: وهل يُستحى أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟ ! ثمَّ قال: ما سمعتَ الناس يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون هو من ثُمالة، قال: أفتعرف القائل: [من الوافر]
سألْنا عن ثُمالةَ كلَّ حيٍّ ... فقال القائلون ومَن ثُمالهْ
فقلتُ محمدُ بن يزيد منهم ... فقالوا زِدْتنا بهم جَهَاله
فقال لي المبرِّدُ خَلِّ قومي ... فقَومي مَعْشَرٌ فيهم نَذَالهْ