في ثيابٍ رثَّة تتعثَّر بذيلها، ووقفت بين يديه، فقال: ما حاجتُكِ؟ فقالت: امرأةٌ غريبة، وأنشدت: [من البسيط]
يا خيرَ منتصفٍ يُهدَى به الرَّشَدُ ... ويا إمامًا به قد أَشرق البلدُ
تشكو إليك عميدَ المُلكِ أَرملةٌ ... عَدَا عليها فما يَقوَى به (?) الأَسَد
فابتزَّ منِّي ضِياعي بعد مَنعَتها ... لمَّا تفرَّق عنِّي الأهلُ والوَلَد
فأَطرق المأمونُ ساعةً [مفكَرًا] (?) ثم رفع رأسَه وقال (?):
مِن دون ما قلت عِيلَ الصبرُ والجَلَدُ ... فأَحضِروا خصمَها اليومَ الذيَ أَعِدُ (?)
والمجلسُ السَّبت إنْ يُقضَ الجلوسُ لنا ... أُنْصِفْكِ منه وإلَّا المجلسُ الأَحَد
وقام، فلمَّا كان يومُ الأحدِ حضرت المرأة، فقال لها: وأين الخصم؟ فأشارت إلى العباس بنِ المأمون، وكان قائمًا على رأسِ أبيه وهو غلام، فقالت: غصبني ضَيعتي، فسأله الحجَّة، فسكت، والمرأةُ ترفع عليه صوتَها وهو لا ينطِق، فقال لها بعضُ الحاضرين: أَترفعين صوتَك على ابن أميرِ المؤمنين! فقال له المأمون: اُسكت؛ فإنَّ الحقَّ أَنطقها والباطل أَخرسه، ثم ردَّ عليها ضَيعتَها وأعطاها عشرةَ آلافِ درهمٍ وردَّها إلى أهلها.
وقال إسحاقُ بن إبراهيمَ المَوصلي: كان المأمونُ قد سخط على الخَليع (?) لأنَّه هجاه ومدح الأَمين. قال إسحاق: فبينا أنا ذاتَ يومٍ عند المأمون، إذ دخل ابنُ البوَّاب الحاجبُ وبيده رُقعة، فاستأذن في إِنشادها، فأذن له، فقال: [من الطويل]
أَجِرني فإنِّي قد ظمئتُ إلى الوعد ... متى تُنجز الوعدَ المؤكَّدَ بالعهدِ
أُعيذك من خُلْف الملوكِ فقد ترى ... تقطُّعَ أنفاسي عليك من الوَجْد