قال الخطيب: فجاءتهُ أمه فقالت: يا نعمان، إن علمًا أفادك الضرب والحبس لحقيقٌ بك أن تنفر عنه، فقال: يا أمَّاه لو أردتُ الدنيا لما ضُربت، ولكن أردتُ وجهَ الله وصيانةَ العلم، ولم أعرِّضه للهلكة.
وقال الخطيب بإسناده عن ابن داود: لما امتنعَ أبو حنيفة من ولاية القضاء حَلف ابن هُبيرة لئن لم يفعل ليضربنَّه بالسياط على رأسه، فقال أبو حنيفة: ضربهُ في الدُّنيا أسهلُ عليَّ من مقامع الحديد في الآخرة، والله لو قتلني لما فعلت. وبلغَ ابن هُبيرة فقال: بلغ من قدره أن يعارض يميني بيمينه، فدعا به فشافهه، فقال: يا ابنَ هبيرة، إنَّما هي موتةٌ واحدةٌ، فضربَه على رأسه عشرين سوطًا، فقال له أبو حنيفة: يا ابنَ هُبيرة، اذكر مقامك غدًا بين يدي الله تعالى، فإنَّه أذلُّ من مقامي بين يديك، ولا تتهدَّدني، فإنّي أقول: لا إله إلَّا الله، واللهُ سائلُك عنِّي، فأمرَ به إلى السجن، فانتفخَ رأسه ووجهُه، فرأى ابن هُبيرة في تلك الليلة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يوبِّخه ويعاتبُه لأجله، فاستحضره واستحلَّه وأطلقَه.
ورَوى الخطيب أنَّ أبا حنيفة كان يخرجُ كلَّ يوم فيضرب، فبكى بكاءً شديدًا وقال: إنَّ غمَّ والدتي أشدُّ عليَّ من الضرب (?).
وروى الخطيب عن ابن المبارك قال: أشخص أبو جعفر أبا حنيفة إلى بغداد وأراده على القضاء، فأبى فحلفَ ليفعلنّ، فحلفَ أبو حنيفة أن لا يفعل، فقال الربيع: أميرُ المؤمنين: يحلفُ وأنتَ تحلف، فقال: هو أقدر على كفارة يمينه منِّي، فأمر به إلى السجن فمات فيه (?)، وسنذكره.
وقال أبو حنيفة لبعض أصحابه: أوصيكُم أن لا يليَ أحدٌ منكم القضاء، وإن دعته الضرورة إلى الدخول فيه فلا يجعلْ بينه وبين الناس حاجبًا، وأوصاهم.
فصل في رؤياه النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
روى الخطيب عن هشام بن مهران قال: رَأىَ أبو حنيفة في المنام كأنَّه نبشَ قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إلى ابن سيرين فسألَه فقال: صاحبُ هذه الرؤية يثوِّرُ علمًا لم يُسبق إليه،