ولما صعد منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنفَّ جُنده صَفَّين من المنبر إلى آخر المسجد، بأيديهم العُمُد على العواتق، وخطب في دُرَّاعة وقَلَنْسُوة، ما عليه رداء، ولما صعد المنبر سكت وأذن المؤذّنون بين يديه، فلما فرغوا خطب الخطبة الأولى وهو جالس، ثم خطب الثَّانية قائمًا.
قال إسحاق بن يحيى: فلقيتُ رجاء بن حَيوة وهو معه، فقلت: هكذا تصنعون! قال: نعم، وهكذا صنع معاوية إلى هَلُمَّ جَرّا، قال: فقلت: أفلا تكلّمه؟ قال: أخبرني قَبيصةُ بنُ ذُؤيب أنَّه كَلّم عبد الملك في هذا، فأبى أن يفعل وقال: هكذا خطب عثمان، قال إسحاق: فقلتُ: والله ما خطب عثمان إلَّا قائمًا، قال رجاء بن حَيوَة: قد رُوي لهم هذا فأخذوا به، قال إسحاق: لم نر منهم أحدًا أشدّ تَجبُّرًا منه، يعني الوليد.
ولما رأى سعيد بن المسيّب قد خطب قاعدًا قال: والله ما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قائمًا، وكذا الخلفاء بعده (?).
[قلت: وقد اختلف الفقهاء في الخطبة قائمًا، فقال أبو حنيفة: القيام سنة، حتَّى لو خطب قاعدًا جاز، وقال مالك والشافعي: القيام شرط، وعن أَحْمد روايتان (?)، واحتجوا بما روي أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بالجلوس. متفق عليه (?).]
وقال البَلاذري: إن عمر بن عبد العزيز لما تلقّى الوليد ومعه الأشراف وضع لهم الوليد أربعة كراسي، فجلس عليها أربعة من أشراف قريش، أمّ كل واحدٍ منهم من بني عَديّ بن كعب، وهم: عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفَّان، ويُسمَّى المُطْرَف لجماله، وأمّه حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ومحمَّد بن المنذر بن الزُّبير، وأمّه عاتكة بنت سعيد بن زيد، وطلحة بن عبد الله بن عوف الزُّهري، وأمُّه ابنة مُطيع بن الأسود العَدَويّ، ونَوفَل بن مُساحق، وأمّه مريم بنت مطيع، وهذا نوفل ذكرناه في سنة سبع وثمانين، وهذه الرواية تدلّ على تأخّرِ وفاته (?).