أقداحًا، واستهلَّ واستَبْشَر. ثم قال للجواري: أطرِبْنَني. فخفقنَ بعيدانهنَّ وانْدَفَعنَ يُغنِّين [هذه الأبيات، وهي لحسان بن ثابت]:
للهِ دَرُّ عصابةٍ نادمتُها ... يومًا بجِلِّقَ (?) في الزَّمانِ الأوَّلِ
الأبيات [وقد ذكرناها في ترجمة حسان].
فطربَ جَبَلَةُ وقال: هذا الشعر لحسان؛ قاله فينا. فقلتُ: أَمَا إنه لشيخٌ كبيرٌ ضرير.
ثم قال: أَطْرِبْنني، فقلن:
لِمَنِ الدارُ أقْفَرَتْ بمَعانِ ... بين أعلى اليرموكِ والصَّمَّانِ (?)
ذاك مغنًى لآل جَفْنَةَ في الدَّهْـ ... ــر محاة (?) تعاقبُ الأزْمانِ
فقال: وهذا أيضًا لحسان.
ثم قال للجواري: أبْكِينَني. فوضعن عِيدانَهنَ، ونكَسْنَ رؤوسهن، وقُلنَ:
تَنَصَّرتِ الأشراف عارِ لَطْمَةٍ ... ولو صَبَرَتْ ما كان يومًا لها ضَرر (?)
تكنَّفني فيها لَجاجٌ ونخوةٌ ... وسمعتُ بها العينَ الصحيحة بالعَوَر
فيا ليتَ أمِّي لم تَلِدني وليتَني ... رجَعتُ إلى القولِ الذي قاله عُمر
ويا ليتني أرعى المخاضَ بقفْرةٍ ... وكنت أسيرًا في ربيعةَ أو مضَرْ
ويا ليتَ لي بالشام أدنى معيشةٍ ... أُجالسُ قومي ذاهبَ السمعِ والبَصرْ
أَدِينُ بما دانوا به من شريعةٍ ... وقد يصبرُ العُودُ الكبير على الضَرَر
وانصرف الجواري، ووضع كُمَّه على وجهه وبكى حتى نظرتُ إلى دموعه تجولُ على خدَّيه كأنها اللؤلؤ الرطب، وبكيتُ معه حتى رحمتُه. ثم قال: يا جارية، هاتي خمس مئة دينار هِرَقْلية. فجاءت بها، فقال: ادفَعها إلى حسان، وأَقْرِئْه مني السلامَ. ثم