قدم راسخ في المجاهدة والعبادة، وتجرد خالص من دواعي الهوى وشوائب إلىكون إلى ألفادة، ومقاطعة دائمة بجميع الخلائق، وصبر جميل في طلب مولاة بقطع العلائق، وتجرع الغصص على مر الشدائد والبلوى، ورفض كلي لجميع الأشغال اشتغالاً بالمولى. ثم لما أراد الله به نفع الخلائق بعدما تضلع من العلوم الظاهرة وأسرار الحقائق، أضيف إلى مدرسة أستاذه أبي سعد المخرمي مما حولها من المنازل والأمكنة ما يزيد على مثلها، وبذل الأغنياء في عمارتها أعمالهم، وعمل الفقراء فيها بأنفسهم، فتكملت المدرسة المنسوبة إليه الآن، وكان الفراغ منها في سنة ثمان وعشرين وخمس مائة، وتصدر فيها للتدريس والوعظ والفتوى، وجلس بها للوعظ وقصد بالزيارات والنذور، واجتمع عنده بها من العلماء والفقهاء والصلحاء جماعة كثيرون، انتفعوا بكلامه وصحبته ومجالسته وخدمته، وقصد إليه طلبة العلم من الآفاق، فحملوا عنه وسمعوا منه، وانتهت إليه تربية المريدين بالعراق، وولي خزانة الأسرار وأوتي مقاليد الحقائق، وسلمت إليه أزمة المعارف، وصرف في الوجود المغارب منه والمشارق، فأصبح قطب الوقت مرجوعاً إليه حكماً وعلماً، وقام بالنظر والفتيا نقضاً وبرماً، وبرهن على العلم فرعاً وأصلاً، وبين الحكم عقلاً ونقلاً، وانتصر للحق قولاً وفعلاً. وصنف كتباً مفيدة وأملأ فوائد فريدة، فتحدث بذكره إلىفاق، وسارت بفضله إلىكبان وانتشرت أخباره في الآفاق، وأعملت المطي إليه ومدت إليه الأعناق، وتنزهت في حدائق محاسنه الأعين، ونطقت ببدائع أوصافه الألسن، ولقب بإمام الفريقين وموضح الطريقين، وكريم الجدين ومعلم الطرفين، مشتملاً برداء المفاخر والفضائل، صادقاً فيه قول ألفائل:
بمقدمه انهل السحاب وأعشب ال ... عراق وزال الغي واتضح إلىشد
فعيدانه رند، وصحراؤه حمى ... وحصاؤه در وأمواجه شهد
يميس به صدر العراق صبابة ... وفي قلب نجد من محاسنه وجد
وفي الشرق برق من مقابس نوره ... وفي الغرب من ذكرى جلالته رعد
فأضحى الزمان مشرقة به مناكبه، والدين مشرفة به مناصبه، والعلم عالية به مراتبه، والشرع منصورة به كتائبه، فانتمى إليه جمع عظيم من العلماء، وتلمذ له خلق كثير من الفقهاء، حذفت ذكرهم اختصاراً لكثرة عددهم ومشقة ذكرهم. وكذلك لبس الخرقة منه خلائق لا يحصون - من الفقراء والمشايخ الكبراء والعلماء