وقال: وقفت عليه في بعض شروح المقامات، وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كلكم حارث وكلكم همام، فالحارث: الكاسب، والهمام: كثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل أحد كاسب ومهتم بأموره. وقد اعتنى، بشرحها خلق كثير، فمنهم من طول، ومنهم من اختصر، قال ابن خلكان: ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد، فادعاها فلم يصدقه من أدباء بغداد، وقالوا إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته فقال: أنا رجل منشىء، فاقترح عليه إنشاء الرسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية عن الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زماناً كثيراً فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم بن أفلح الشاعر، فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح هذين البيتين، وقيل إنهما لابن محمد الحريمي البغدادي الشاعر المشهور:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنوته من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس
وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعاً ينتف لحيته عند الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر، وسيرهن واعتذر من عيه وحصره بالديوان بما لحقه من المهابة، وللحريري تاليف حسان منها: درة الغواص في أوهام الخواص ومنها ملحة الإعراب، منظومة في النحو والآداب، وله أيضاً شرحها، وله ديوان رسائل وشعر كثير غير شعره الذي في المقامات، ومن ذلك قوله:
قال العواذل ما هذا الغرام به ... أما ترى الشعر في خديه قد نبتا
فقلت والله لو أن المفند لي ... تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل منها والربيع أتى
وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيراً، ويحكى أنه كان دميماً قبيح المنظر، فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئاً من شعره، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس أن يملي عليه قال: اكتب.