سألناه عن كيفتة الرغبة في الخروج عن بيته، والرجوع إلى ما دعي إليه من أمر نيسابور، فقال معتذراً عنه: ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالإفادة، وقد حق علي أن أبوح بالحق، وأنطق به، وأدعو إليه، وكان صادقاً في ذلك، ثم ترك ذلك قبل أن يترك، وعاد إلى بيته، واتخذ في جواره مدرسة لطلبة العلم وخانقاهاً للصوفية، وكان قد وزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب والقعود للتدريس، بحيث لا تخلو لحظة من لحظاته ولحظات من معه عن فائدة، إلى أن أصابه عين الزمان ومن الأيام به على أهل عصره، فنقله الله تعالى إلى كريم جواره من بعد مقاسات أنواع من التقصد والمناوأة من الخصوم، والسعي به إلى الملوك، وكفاية الله تعالى وحفظه وصيانته عن أن تنوشه أيدي النكبات، أو ينتهك ستر دينه بشيء من الزلات. وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين: البخاري والمسلم اللذين هما حجة الإسلام، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن في يسير من الأيام يستفزعه في تحصيله، ولا شك أنه سمع الأحاديث في الأيام الماضية، واشتغل في آخر عمره بسماعها، ولم تتفق له الرواية، وما خلف من الكتب المصنفة في الأصول والفروع وسائر الأنواع يخلد ذكره، ويقرر عند المطالعين المنصفين المستفيدين منها أنه لم يخلق مثله بعده، ومضي إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة، خصه الله تعالى بأنواع الكرامة في آخرته، كما خصه بفنون العلم بدنياه بمنة ورحمته. وقلت إلى شيء من ذكر ارتفاع مناقبه وبحر علوم كتبه - أشرت - والانتفاع في بعض القصيدات بقولي في هذه الأبيات:
وأحيا علوم الدين طالعه ينتفع ... ببحر علوم المستنير المحصل
أبي حامد الغزال غزل مدقق ... من الغزل لم يغزل كذاك بمغزل
دعي حجة الإسلام لا شك أنه ... لذلك كفؤ كامل للتأهل
له في منامي قلت: إنك حجة ... لإسلامنا لي قال: ما شئت لي قل
وقلت في أخرى:
بناكم وجير من بناء قواعد ... وجمع معان واختصار مطول
وكم من بسيط في جلاء نفائس ... وإيضاح إيجاز وحل لمشكل
وكم ذي اقتصار مودع رب قاطع ... لإفحام خصم مثل ماض به اعتل
بكف همام ذب عن منهج الهدى ... بحرب نصال لا يرى غير أول
كمثل الفتى الحبر المباهي بفضله ... فعنى بغزال العلى وتغزل