وأملى، وحدث، وعاش ثمانياً وسبعين سنة، اشتغل في ابتداء أمره بالحديث والفقه، ثم اتصل بخدمة علي بن شاذان المعتمد عليه بمدينة بلخ، وكان يكتب له، ثم خلاه وقصد داود بن مكائيل السلجوقي بالسين المهملة والجيم والقاف والد السلطان ألب أرسلان - فطهر له منه النصح والمحبة، فسلمه إلى ولده المذكور، وقال له: أتخذه والداً، ولا تخالفه فيما يشير به.
ثم لما توفي داود، وملك ولده المذكور، دبر نظام الملك أمره، فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشرين سنة، ثم توفي السلطان المذكور، فازدحم أولاده على الملك، ثم آل أمر المملكة لولده ملك شاه، فصار الأمر كله للنظام، وليس للسلطان إلا التخت والصيد، وأقام على هذا عشرين سنة، ودخل على الإمام المقتدي بالله، فأذن له بالجلوس بين يديه، وقال له: يا حسن، رضي الله عنك برضى المؤمنين عنك. وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والصوفية، وكان كثير الإنعام على الصوفية، فسئل عن سبب ذلك فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء، فوعظني، وقال: اخدم من تنفعك خدمته، ولا تشتغل بما يأكله الكلاب غداً. فلم أعلم معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد - وكانت له كلاب كالسباع، تفترس الغرباء - فغلبه السكر، فخرج وحده، فلم تعرفه الكلاب، فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك. فأنا أخدم الصوفية لعلي أظفر بمثل ذلك، وكان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه، وكان إذا قدم عليه أبو المعالي إمام الحرمين، وأبو القاسم القشيري صاحب الرسالة بالغ في إكرامهما، وأجلسهما في مسند. وبنى المدارس والربط والمساجد في البلاد، فاقتدى به الناس، وشرع في عمارة مدرسته ببغداد سنة سبع وخمسين وأربع مائة. وفي سنة تسع وخمسين جمع الناس على طبقاتهم ليدرس بها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فلم يحضر، ودرس أبو نصر بن الصباغ بها عشرين يوماً، ثم درس بها الشيخ أبو إسحاق قلت: وقد تقدم إيضاح ذلك، وبيان سبب تغيب الشيخ أبي إسحاق عن التدريس في أول الأمر، وتدريسه بها فيما بعد، في ترجمته في سنة ست وسبعين وأربع مائة، واسمع نظام الملك الحديث بعدما سمعه، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلاً لذلك، ولكني أريد أن أربط نفسي في قطار النقلة لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويروى له من الشعر قوله:
بعد ثمانين ليس قوه ... ذهبت نشوة الصبوه
كأنني والعصا بكفي ... موسى، ولكن بلا نبوه