قلت ومما يناسب ذلك ما جرى لبعض علماء اليمن، وهو الفقيه الإمام الكبير البارع الولي الشهير، قدوة الزمن، ومفتي اليمن: علي بن قاسم، وذلك أن سلطان اليمن لما ثبت عنده أنه أفضل أهل زمانه في نواحي مكانه، ندبه إلى التدريس في مدرسته، فامتنع، فراجعه في ذلك، فلم يوافق، فقالوا له: إما تدرس في مدرستي، وإما تخرج من بلادي، فقال: أنا أخرج، فخرج إلى بعض الأمكنة التي لا يجتمع فيها من الطلبة مثل ما يجتمع في المدن، فأخذ يدرس فيها، فلم يحضر عنده إلا نفر يسير، خلاف ما كانه يحضره عنده من الجمع الكثير، فأنكر في ذلك، وقال: أرجع أدرس في المكان الذي كنت فيه - والبلاد بلاد الرحمن، ما هي بلاد السلطان فرجع، فأعلم السلطان - برجوعه، فقال: لعله قبل التدريس، فاستحضره، وأمره بالذهاب إلى المدرسة، فامتنع من ذلك، فقال: اذهبوا به إلى الحبس، فذهبوا به، فلما بلغ ببعض الطريق، أمر برده، فلما رجع إليه قال له: المصلحة أن تدرس، فأبى ورأى المصلحة بخلاف ذلك، فقال: اذهبوا به إلى الحبس، فذهبوا به إلى أن بلغ ما شاء الله من الطريق، ثم استدعى برده فلما رجع تكلم عليه، وحذره من المخالفة، وبالغ في ذلك، فقال: لا سبيل إلى ذلك، فقال: اسجنوه، فسجنوه بعنف، وربما أخذوه بأطوار، فقال: يا قميص، اخنقه. أو كما قال من الكلام مشيراً بذلك إلى قميص السلطان، فخنق السلطان قميصه، ونزل عليه من البلاء ما لا يطيقه، فصاح: أطلقوه، أطلقوه. فما أطلقوه، فأطلقه السلطان لما أصابه من البلاء والامتحان. ومما وقع للفقيه المذكور مع السلطان أنه حضر شهر رمضان في وفد السلطان، فقال: انظروا أفضل الناس يصلي بنا في هذا الشهر. فقالوا: ما هنا أفضل من الفقيه علي بن قاسم، فاستدعى به السلطان، والتمس منه أن يؤمهم، فلما كان أول ليلة من رمضان، تقذم على أنه يصلي بهم، فطار شرار من الشماع التي في حضرة السلطان، فوقعت في ثياب الفقيه المذكور، فنفض ثيابه، وهج خارجاً من ذلك المكان وهو يقول: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "، - هود 113 -. وكان من حدة ذكائه وقوة براعته في الفقه أنه التزم ان جميع ما يسأل عنه لا يجيب عنه إلا من كتاب التنبيه. رجعنا إلى ذكر صاحب التنبيه:
أخبرني بعض الفقهاء الصلحاء، أفضل أهل الصنعاء، ممن يرد عليه أحوال الفقراء، قال: كنا جماعة نتدارس التنبيه، كما يتدارس القرآن، فبينا نحن في بعض الأيام نتدارسه، إذ كشف لي عن الشيخ أبي إسحاق حاضراً معنا في المجلس، وإذا به يقول ما معناه: حسبت في كتابي ما حسبته من خير الآمال، وما حسبت قط أنه بلغ إلى هذا الحال، أو نحو ذلك من المقال. يعني: أنه يتدارس كما يتدارس القرآن. وقال القاضي محمد بن محمد الماهاني: إمامان ما اتقق لهما الحج: الشيخ أبو إسحاق، والقاضي ابو عبد الله الدامغاني. اما أبو إسحاق، فكان فقيراً، ولكن لو اراده لحمل على الأعناق. وأما الدامغاني، فلو أراد الحج على السندس والاستبرق لأمكنه. وقال الفقيه أبو الحسن محمد بن عبد الملك الهمداني: حكى أبي قال: حضرت مع قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي - سنة أربعين وأربعمائة - في عزاء إنسان سماه، فتكلم الشيخ أبو إسحاق، فلما خرجنا، قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق، لو رأه الشافعي لتجمل به، أو قال: لأعجب به. وقال الإمام أبو بكر الشاشي مصنف المستظهري: وشيخنا أبو إسحاق حجة على أئمة العصر. وقال الموفق الحنفي: الشيخ أبو إسحاق أمير المؤمنين فيما بين الفقهاء. وقال الإمام السمعاني: كان أبو إسحاق يوسوس في الطهارة. سمعت عبد الوهاب الأنماطي يقول: كان الشيخ أبو إسحاق يتوضأ في الشط، فغسلرني بعض الفقهاء الصلحاء، أفضل أهل الصنعاء، ممن يرد عليه أحوال الفقراء، قال: كنا جماعة نتدارس التنبيه، كما يتدارس القرآن، فبينا نحن في بعض الأيام نتدارسه، إذ كشف لي عن الشيخ أبي إسحاق حاضراً معنا في المجلس، وإذا به يقول ما معناه: حسبت في كتابي ما حسبته من خير الآمال، وما حسبت قط أنه بلغ إلى هذا الحال، أو نحو ذلك من المقال. يعني: أنه يتدارس كما يتدارس القرآن. وقال القاضي محمد بن محمد الماهاني: إمامان ما اتقق لهما الحج: الشيخ أبو