فسلمت فلم يرد علي، وجعل ينكت في الأرض، فأيست من الحياة، فقال: يا أصمعي؟ ألم تر هذا الكذاب عبد بني حنيفة يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد عبيدي:

أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لا يزيد به وبالاً

وقلنا أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالاً

وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالاً

فجعلني وحشمي عيالاً لمعن، وقال: إن النوال قد ذهب، فما تصنع بنا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه، وهو بالباب، فقال علي به، فأدخل، فقال: السياط، فأخذ الخدم يضربونه فضرب أكثر من ثلاثمائة سوط، وهو يصيح ويقول: يا أمير المؤمنين، استبقني، واذكر قولي فيك وفي أبيك، قال: وما قلت فينا. فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

ما تطفئون من السماء نجومها ... أو تمحقون من السمع هلالها

أم ترفعون مقالة عن ربه ... جبريل بلغها النبي فقالها

شهدت من الأنفال أحزابه ... إن أتهم فأرتمو إبطالها

فدعوا الأسود خوادراً في غيلها ... ألا تولغ دماءكم أشبالها

وقال: فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلاه، فلما خرج قال لي: يا أصمعي من هذه؟.

قلت: لا أدري، قال: هذه مواسية بنت أمير المؤمنين، قم فقبل رأسها، فقلت: أفلت من واحدة، ووقعت في أخرى، إن فعلت أدركته الغيرة فقتلني، فقمت، وما أعقل، فوضعت كمي على رأسها وفمي على كفي، فقال لي: والله لو أخطأتها لقتلتك، قلت: يعني لو أخطأت هذه الفعلة التي فعلتها بهذه الصفة، قال: ثم قال: أعطوه عشرة آلاف درهم.

وقال الأصمعي: حضرت أنا وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع، فقال لي: كم كتابك في الخيل؟ فقلت: مجلد واحد، فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلداً، فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسكه عضواً عضواً منه، فقال: لست بيطاراً، وإنما هذا شيء أخذته من العرب، فقال لي: قم يا أصمعي، وافعل ذلك، فقمت وأمسكت ناصيته، وشرعت أذكر عضواً عضواً، وأضع يدي عليه، وأنشده ما قالت العرب فيه إلى أن فرغت منه، فقال: خذه، فأخذته، وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة كتبته إليه.

وروي عن طريق أخرى أن ذلك عند هارون الرشيد، وأن الأصمعي لما فرغ من كلام في أعضاء الفرس، قال الرشيد لأبي عبيدة: ما تقول في ما قال؟ قال: أصاب في بعض، وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه مني تعلم، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015