قال الأصمعي: فنمت والله قد أنسيت أهلي، وهانت علي الغربة وشطف العيش " يعني خشونته " سروراً بما سمعته.
وقال: رأيت بالبادية شيخاً قد سقط حاجباه على عينيه، فسألته عن سنه فقال: مائة وعشرون سنة، فقلت: أرى فيك بقية، فقال: تركت الحسد فبقي علي الحسد، فقلت له: هل قلت شيئاً؟ فقال: بيتين في إخواني فاستنشدته فقال:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي ... أرحني، فقد أفنيت كل خليل
أراك بصيراً بالذين تبيدهم ... كأنك تنحو نحوهم بدليل
وقال وكان بالبصرة أعرابي من بني تميم، يطفل أو قال: يتطفل على الناس، فعاتبته على ذلك، فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا وضع الطعام إلا ليؤكل، وما قدمت هدية إلا لتقبل، فأتوقع رسولاً، وما أكره أن أكون ثقلاً ثقيلاً على من أراه شحيحاً بخيلاً، وأقتحم عليه مستأنساً، وأضحك إن رأيته عابساً، وآكل برغمه، وأوذعه بغمه، فما أعد للهوات طعام أطيب من طعام لا ينفق عليه درهم، ولا يعنى فيه خادم، ثم أنشأ يقول:
كل يوماً دور في عرصة الحي ... اسم القتار ثم ألف باب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... وختان ومجمع للصحاب
لم أودع دون التقحم لا ... أرهب دفعاً ونكرت البواب
مع أبيات أخرى، وقال عمرو بن الحارث الحمصي ما رأى الأصمعي مثل نفسه قط، لقد قال الرشيد يوماً: أنشدونا أحسن ما قيل في العقاب، فعذر القوم، ولم يأتوا بشيء، فقال الأصمعي من أحسنه:
باتت بورقها في وكرها شعب ... وناهض مخلص الأقرات من فيها
ثم استمر بها عزم فحذرها ... كأنما الريح هبت من خوافيها
ما كان إلا كرجع الطرف أو رجعت ... فلا تمطرن مما في أسافيها
ثم قال: وهذا امرؤ القيس يقول:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والخشف البالي
فقال الرشيد: لله درك ما من شيء إلا وجدت عندك فيه شيئاً، وقال عمرو: دخل العباس بن أحنف على الرشيد، وعنده الأصمعي، فقال له: أنشدنا من مكحل العربية، فأنشده: