قلت ويروى هذا البيت السنون العواثر، يروى أنه أنشده عمرو بن مضاض الجرهمي بعد أن أخرج قومه من مكة، ونزلوا بلاد اليمن. قال: فانتبهت فزعاً وقصصتها على أحد خواصي، فقال: اضغاث أحلام، وليس كل ما يراه الإنسان يجب أن يفسر فعاودت مضجعي فلم تمتلي عيناي غمضاً حتى سمعت صيحة الرابطة والشرط وقعقعة نجم البريد ودق باب الغرفة، فأمرت بفتحها فصعد سلام الأبرش الخادم، وكان الرشيد يوجهه في المهمات، فانزعجت وأرعدت مفاصلي، وظننت أنه أمرني بأمر، فجلس إلى جانبي وأعطاني كتابأ، فقرأته وإذا فيه: هذا كتابنا بخطنا مختوم، بالخاتم الذي في يدنا، وموصله سلام الأبرش، فإذا قرأته فقبل أن تضعه من يدك امض إلى دار يحيى بن خالد لاحاطه الله، وسلام الأبرش معك حتى تقبض عليه، وتوقره حديداً، وتحمله إلى الحبس في مدينة المنصور المعروف بحبس الزنادقة، وتتقدم إلى بآدام بن عبد الله، وتأمره أو كما قال بالمسير إلى الفضل ابنه، مع ركوبك إلى دار يحيى، وقبل انتشار الخبر تفعل به مثل ما تقدم إليك في يحيى، وأن تحمله أيضا إلى حبس الزنادقة، ثم ابعث بعد فراغك من أمر هذين أصحابك في القبض على يحيى وأولاده وإخوته وقراباته، وذكر أشياء أخرى يطول ذكرها اقتضى الاقتصار حذفها. قال الراوي: ثم دعا السندي بن شاهك فأمره بالمضي إلى بغداد والتنكيل بالبرامكة وكتاباتهم وقراباتهم، وأن يكون ذلك سراً، ففعل السندي، ذلك، وكان الرشيد بالأنبار بموضع يقال له العمر بضم العين المهملة ومعه جعفر بمنزله، وقد دعا أبا زكار بالزاي قبل الكاف والراء في آخره وجواريه، ونصب الستائر وأبو زكار يغنيه.
ما يريد الناس منا ... ما ينام الناس عنا
إنما همهم أن ... يظهرواما قد دفنا
ودعا الرشيد ياسراً غلامه، وقال له: لقد انتخبتك لأمر، ولم أر له محمداً ولا عبد الله ولا القاسم، فحقق ظني، واحذر أن تخالف فتهلك، فقال: لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، فقال: اذهب إلى جعفر بن يحيى، وجئني برأسه الساعة، فوجم لا يجيب جواباً، فقال مالك: ويلك، قال: الأمر عظيم، وددت أني مت قبل وقتي هذا، فقال: امض لأمري، فمضى حتى دخل على جعفر، وأبو زكار يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أويغادي
وكل ذخيرة لا بد يوماً ... وأن بقيت يصير إلى نفاد
ولو فديت من حديث الليالي ... فديتك بالطريف وبالتلاد
فقال! له: يا ياسر، سررتني بإقبالك، وسوأتني بدخولك من غير إذن، قال: الأمر أكبر