يحدثني في فناء لا مساكن فوقه ولا تحته ولا جدار حوله، فكان يأخذني غالباً إلى ميدان (البانطئوون) الواسع الأرجاء لمناجاتنا السياسية، لأننا نكون في وسطه بعيدين عن مسامع المارة، كنت ألاحظ ذلك دون أن يبدو لي جانب منطقي لملاحظتي إلا يوماً بعد عشرين سنة، كنت مع صديقي (صالح بن الساعي) وجماعة من طلبة جزائريين نتناجى بغرفة نزل في القاهرة حول مسيرة الثورة الجزائرية، إذ قام صديقي ليغلق علينا باب الغرفة، فتذكرت فجأة كم كان صديقي الصيني أقرب لمنطق الحذر، فصرخت لصالح: ((أرجوك أن تترك الباب مفتوحاً، وإن استطعت أن تزيل الجدران من حولنا فافعل، لأن الجدران قد تكون أحياناً وراءها آذان صاغية.))
ومهما يكن فاليوم بعد أربعين سنة أرى بصورة أوضح جوهر اختلافي مع صديقي الصيني، إذ كان يطرح قضية البلاد المستعمَرة بتعبير السياسة، وكنت أطرحها من الوجهة الحضارية.
وكان حولي في المدرسة وجوه أخرى ذات سمات معبرة، من بينها طلبة يهود نزحوا مع أسرهم من ملاح (?) (كراكوفيا) وغيرها من مدن الشرق الأوربي، ليتخرجوا ثم ليتوزعوا في عواصم الغرب، حتى في عواصم الشرق العربي، بعد أن يتخذوا جنسيات جديدة ..
وكان خاصة شاب يهودي تخرج فيما بعد (الأول) في فوجه، كان قد قدم للتحصيل على التكنية من أجل تأسيس وطن يهودي بفلسطين، لا أتذكر اسمه وإنما أتذكر أنه يستحق التقدير أكثر من أي طالب عربي اسمه (س) في ذلك الجيل التائه؛ كان يعكف في القسم عندما يخرج منه أقرانه في الساعة الثانية