نفسها المصير الأسود الذي كان ينتظرها على بعد خطوات من الزمن غير بعيد.. وينبغي أن نقرر هنا ما كان للإسلام من أثر عميق في تلك اليقظة التي فزعت منها الكنيسة، فما كان أي عقل يقترب من الثقافة الإسلامية والحياة الفكرية الإسلامية ليرضى أن يظل عبدا لذلك الطغيان الفكرى والروحي الذي تمارسه الكنيسة أو يتقبل ترهاتها بلا مناقشة. وسواء اعترف المؤرخون الأوربيون بهذا الأثر أم لم يعترفوا "والمنصفون -وهم قلة- يعترفون" فلنعد إلى ويلز مرة أخرى يفسر لنا تلك الحالة النفسية التي ساورت الكنيسة ضد أي لون من المعرفة يأتي من مصدر غير مصادرها.
"كان هذا التعصب الأسود القاسي روحًا خبيثًا لا يجوز أن يخالط مشروع حكم الله في الأرض. وإنه لروح يتعارض تمامًا مع روح يسوع الناصري، فما سمعنا قط أنه لطم الوجوه أو خلع المعاصم لتلاميذه المخالفين له أو غير المستجيبين لدعوته، ولكن البابوات كانوا طوال قرون سلطانهم في حنق مقيم ضد من تحدثه نفسه بأهون تأمل في كفاية الكنيسة الذهنية.
"ولم يقتصر تعصب الكنيسة على الأمور الدينية وحدها. فإن الشيوخ الحصفاء المولعين بالأبهة السريعي الهياج الحقودين، الذين من الجلي أنهم كانوا الأغلبية المتسلطة في مجالس الكنيسة، كانوا يضيقون ذرعًا بأية معرفة عدا معرفتهم، ولا يثقون بأي فكر لم يصححوه ويراقبوه، فنصبوا أنفسهم للحد من العلم، الذي كانت غيرتهم منه بادية للعيان، وكان أي نشاط عقلي عدا نشاطهم يعد في نظرهم نشاطًا وقحًا"1.
وأيا كانت الأسباب فقد كانت محاكم التفتيش وما صحبها من الفظائع عميقة الأثر في الحس الأوروبي، وسيئة النتائج بالنسبة للحضارة الجاهلية التي انبثقت في أوروبا منذ عهد النهضة.. لقد أصبح عداء "الدين" المتمثل هناك في الكنيسة ورجالها أمرًا "لازمًا" لكل صاحب فكر حر أو ضمير حي.. لأن هذا العداء هو أبسط تعبير عن الثورة ضد الذل والمهانة التي تفرضها الكنيسة على الكرامة الإنسانية كما تفرضها على العقل الذي خلقه الله ليفكر لا ليمتهن بالحبس في داخل سدود وقيود ما أنزل الله بها من سلطان، إنما هي من صنع بشر يبدو للعقول المفكرة مدى تفاهة تفكيرهم وعجزهم، وغطرستهم الطاغية في ذات الوقت. ولئن كان كل ما ارتكبته الكنيسة من الخطايا كان جريمة في حق الدين، فإن هذه الخطيئة البشعة كانت ولا شك من كبريات الجرائم التي سجلها التاريخ.