إن اليهود في هذه المرة لم يفسدوا عقائد الأمميين كما كانت محاولاتهم السابقة في التاريخ، إنما أفسدوا فطرتهم. وقد أسلفنا القول بأن الفطرة -وإن ضلت- لا تتجه إلى الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله. وإنما تتجه إلى الشرك. فاتجاهها إلى لإلحاد في الجاهلية المعاصرة ليس مجرد ضلال ككل ضلال سابق، إنما هو فساد في أعماق الفطرة قام به اليهود استغلالا للأرضية الفاسدة التي كانت قائمة في أوروبا منذ "النهضة". وسواء كان الجهد الذي بذلوه في هذا الشأن عسيرا أو ميسرا فقد استغرقوا قرابة قرنين من الزمان حتى وصلوا به إلى صورته الشاملة الموجودة اليوم في الأرض، سواء في المعسكر الشرقي حيث يفرض الإلحاد فرضا في مناهج التعليم ووسائل الإعلام ويعاقب من يضبط "متلبسا" بمجرد الحديث في الدين لفتى أو فتاة دون سن الرشد ...
أو المعسكر الغربي حيث لا يفرض الإلحاد على الناس بتلك الصورة ولكن يشجع الناس عليه بكل وسائل التشجيع!
والإلحاد لا يستحق منا مناقشة "علمية" جادة؛ لأنه ليس من الأمور الجادة التي عرضت للبشرية في مسيرتها على هذه الأرض. إنما هو عبث صنعه الشياطين وأوقعوا فيه المستغفلين من الأممين في فترة كانوا فيها {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 1 ولقد كانت "الحمر" فارة من طغيان الكنيسة وحماقاتها، فأسرع الشياطين فركبوها وألهبوا ظهورها بالسياط لتجري إلى آخر المشوار، بدلا من أن تفيق من نفرتها المجنونة وتفيء إلى الدين الصحيح الذي يخلصها من كل ما كانت تشكو منه من مشكلات أو انحرافات أو حماقات..
وقد تحدثنا في مقدمة هذا الفصل عن بعض منافذ الفطرة التي توصلها إلى الإيمان بوجود الخالق المدبر المهيمن المسيطر, سواء عرفته على حقيقته فعبدته العبادة الحقة أم تصورته على غير حقيقته وأشركت به آلهة آخرى، وما بنا من حاجة إلى مزيد في مثل بحثنا الحاضر. ولكنا هنا -في هذا الفصل- بصدد شيء واحد هو التأكيد على هذه الحقيقة: أن الإلحاد ليس من شأن الفطرة حتى في حالة ضلالها، وأنه أمر مصطنع، لا تصل إليه الفطرة من تلقاء نفسها مهما وصل بها الحال من الضلال.