وحتى لو فرضنا جدلا -بغير دليل يقيني- أنهم أنكروا وجود الله، فليس هناك من يقول إنهم كانوا كثرة يحسب لها حساب، ولا إنهم كانوا هم الصورة الغالبة للجاهلية، أما إنكار وجود الله على النحو الذي تتبجح به الجاهلية المعاصرة، وبالسعة التي تمارس بها ذلك التبجح، فأمر غير مسبوق في تاريخ البشرية..
ذلك أن الفطرة بذاتها تعرف وجود الله، وتتجه إليه اتجاها فطريا بالعبادة على نحو من الأنحاء.. ولو ضلت الطريق! ولم يكن الضلال الغالب على البشرية في جاهلياتها هو إنكار وجود الله، إنما كان الضلال الغالب هو الشرك، وتصور الله على غير حقيقته، فقد يتصورون أنه هو الشمس أو هو القمر أو هو النجم أو ما إلى ذلك من المخلوقات.. {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1.
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 2.
أو يتصورونه آلهة متعددة متعادلة في القوة والسطوة كإله الخير وإله الشر عند الفرس، يتنازعان أبدا ولا يغلب أحدهما الآخر، أو غير متعادلة كما كان الرومان والإغريق يؤمنون بوجود إله كبير هو رب الأرباب، ودونه آلهة شتى، وكما كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بأن الله هو رب الأرباب الخالق الرازق المهيمن، وثمة آلهة أخرى يشاركونه في بعض الأمر فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3.
ولم يبعث الله رسولا ولا نبيا ليقول للناس إن هناك إلها فالفطرة تعرف ذلك بغير رسول! ولا ليقول لهم إن هناك إلها فاعبدوه. فالفطرة تتجه بالعبادة تلقائيا إلى الإله الذي تعتقد بوجوده بغير رسول! فقد أودع الله ذلك كله في الفطرة والبشر ما زالوا في عالم الذر:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 4!.