الإنساني كله في الحقيقة- للتعرف على الله والإيمان به وطاعته، حتى إذا جاء العقل يتعرف على الكون، ويعمل على تسخير طاقاته في عمارة الأرض، كان مهتديا بالهدي الرباني، فأقام عمارة الأرض على أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة.

وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية على "قيم" أخرى غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض. وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن التعليق.

فتوجيه العقل -في الإسلام- إلى التعرف على السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلى الإيمان بالله، هو المنهج الصحيح لتنشئة "الإنسان الصالح" الذي تسعى البشرية -نظريا- إلى تنشئته, ولكنها تخفق دائما حين تتنكب المنهج الرباني، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلى البوار.

وإن كان لنا من شيء نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال, فهو أن الأمة المسلمة -بتوجيه الإسلام- هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة "إنسانية" حقيقية، تمثل "الإنسان" كله لا جانبا واحدا من جوانبه، وتمثله متوازنا كما ينبغي للإنسان، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض، ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنه عن السبب الحقيقي، ولا العلم يفتنه عن الدين.. إلى آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حين رفضت الهدي الرباني وجعلت "عقلها" يرسم لها الطريق!

ثالثا: يوجه العقل في الإسلام إلى تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه، ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد، وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين؛ لأنه لا يتيسر لكل الناس -وإن كانوا مؤمنين- أن يتفقهوا في أحكام الدين. إنما الفقهاء لهم استعداد خاص، ويحتاجون إلى دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015