فهو ليس إلها يقول للشيء كن فيكون، إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان، جهد عقلي يتعرف به الإنسان على أسرار الكون وخواصه، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج.
وكل ذلك يوجه العقل لأدائه، بل هو ميدانه الأصيل الذي تتجلى فيه كل عبقريته، والذي لا يشاركه فيه غيره، وليس معنى ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولا يتوهم، فكثيرا ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلى الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون، ولكنه يوجه إلى ذلك بعد أن يوجه إلى التعرف على الخالق، وعلى كل قضايا العقيدة.
ولذلك حكمة واضحة.
فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق -كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها على العقل أن يكفر- مفطور بطبعه على التفكير فيما حوله، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلى أقصى حد من الإتقان والفاعلية، من أجل الحصول على القدر من "المتاع" الذي قدره الله للإنسان في الأرض.
{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} 1.
ولكن العبرة في حياة "الإنسان" ليست بمجرد العمارة المادية للأرض، ولا مجرد الحصول على المتاع من أي لون ومن أي طريق، إنما "الإنسان" خلق لشيء أرفع من ذلك وأسمى.. خلق لحمل "الأمانة" التي أشفقت من حملها السموات والأرض والجبال:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ... } 2.
وحمل الأمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي.. إنما يتم بإقامة ذلك كله على أساس من "القيم".. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة "وقد رأينا من دراستنا السابقة أن كل ما عداها زائف لا يلبث أن تعبث به الأعاصير" ومن ثم كان لا بد من توجيه العقل أولا -والكيان