وحين أصرت الفلسفة اليونانية -ومن تبعها بعد من فلاسفة النصارى وفلاسفة المسلمين- أن يقتحموا باب الكنه بمفتاح العقل، فقد وصلوا جميعا إلى ذلك التخبط الذي يملأ كتب الفلسفة كلها من أول التاريخ إلى آخر التاريخ!

لا جرم أن تجد أرسطو، الذي يعتبره دارسو الفلسفة أعظم "عقل" في التاريخ القديم, يصف إلهه -بعقله- على هذه الصورة:

يقول "العقاد" في كتاب "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه":

"ومذهب أرسطو في الإله إنه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا آخر ولا عمل له ولا إرادة. منذ كان العمل طلبا لشيء والله غني عن كل طلب، وقد كانت الإرادة اختيارا بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير

صالح ولا بين فاضل ومفضول، وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطو أن يبتدي العمل في زمان؛ لأنه أبدي سرمدي ولا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج عن نطاقها عناية تعنيه".

"فالإله الكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولى وهي "الهيولى".. ولكن هذه "الهيولى", قابلة للوجود يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقل عنها إنها من خلقة الله إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار"1.

ويعلق العقاد -بصدق- على هذا التصور فيقول:

"كمال مطلق لا يعمل ولا يريد ... أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو والعدم المطلق على حد سواء ... "2.

والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلى قضايا فلسفية ذهنية بحتة، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل، ويثبت ما يثبت منها وينفي ما ينفى بالعقل، فلا تمس الوجدان البشري، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي، فتفقد قيمتها في واقع الحياة ...

طور بواسطة نورين ميديا © 2015