والشكر يقتضي استخدام هذه الطاقات كلها بمقتضى أوامر المنعم الوهاب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن استخدام هذه الطاقات يغير "الصورة" التي يحيا بها الإنسان على الأرض ولكنه لا يغير "الجوهر" الإنساني من حيث تكوينه الأصيل ولا من حيث مهمته في الأرض. ومن ثم لا تتحكم الصورة المتغيرة في الجوهر الثابت، إنما يتحكم الجوهر الثابت في الصورة المتغيرة على الدوام1.

يقول "رينيه دوبو" في كتاب "إنسانية الإنسان":

"عاش رجل "كروماجنون Cro-Magnon" في أكثر أنحاء أوروبا قبل حوالي ثلاثين ألف سنة، قبل قيام الزراعة وحياة القرية بفترة طويلة، ومع أنه كان صيادا بصورة رئيسية فقد كان -على ما يظهر- مشابها لنا جسما وعقلا. فأدواته وأسلحته تناسب حجم أيدينا الآن، وفنه في كهوفه يثير مشاعرنا، والعناية التي كان يوليها لدفن موتاه تكشف أنه شاركنا بشكل ما في الاهتمام بنهاية الإنسان وآخرته، وكل أثر مدون من آثار إنسان ما قبل التاريخ يوفر شواهد أخرى للفكرة القائلة إن الخواص الأساسية للجنس البشري لم تتغير منذ العصر الحجري2.

وهكذا لا يتغير جوهر الإنسان بتغير الصورة التي تكون عليها حياته، ومن ثم لا تتغير كذلك ضوابطه ومعاييره.

وحقيقة إن التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي هو ذاته معيار من معايير "الإنسان" فقد أنشأ الله الإنسان ليعمر الأرض وسخر له ما في السموات وما في الأرض ليقوم بعملية التعمير، فإن توانى في ذلك أو تقاعس فهو مقصر في جنب من جوانب إنسانيته، ولكن هذا المعيار ليس هو المعيار الأوحد، ولا هو المعيار الأول، وإنما يأتي في مكانه الطبيعي بعد تقرير المبادئ والقيم التي تتوقف عليها إنسانية الإنسان. والفارق بينه وبين المعايير الأخرى -معايير القيم والمبادئ- أن القيم والمبادئ يمكن أن تشكل إنسانا ولو كان ناقصا في جانب التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي، فهو "إنسان" ولكن ينقصه جانب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015