كلا فإنه إن فقد هذه الحقوق وهذه الضمانات فما يمكن أن يحافظ على إنسانيته ولو كان على شيء من عقيدة ولو كان على شيء من أخلاق!
كلا إن إنسانية الإنسان مفقودة في الحالين, وما يكون الإنسان في الجاهلية إنسانا بحال من الأحوال.
ولكنا هنا على أي حال نقّوم الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية كما هي مطبقة في عالم الواقع، فنقول ما لها وما عليها ... فنقول إنها ليست صفحة بيضاء خالصة كما يظن الذين ينظرون من بعيد ولا ينعمون النظر ولا يرون ما وراء الأستار.
ثم نقول إن الصفحة السوداء فيها قاتمة السواد أكثر بكثير مما يظن الذين يأخذون الأمور من سطوحها فيحسبون الفساد جزئيا قابلا للإصلاح وقابلا للتعديل بوضع بعض الضوابط هنا وبعض القيم هناك.
إنها من جهة مسرحية ضخمة تمثلها الرأسمالية وتضع لها أدوارها وتوهم المشاهدين أن الممثلين يتحركون على المسرح من ذوات أنفسهم وبمقتضى إرادة ذاتية لهم، بينما هم -كأي ممثلين في مسرحية- يتحركون بمقتضى الدور المعطى لهم وفي حدوده المرسومة، لا يملكون أن يتجاوزوا المسرح أو يتجاوزوا دورهم في المسرحية المعروضة عليه ... وإلا طردوا بتهمة الإفساد! أو عوقبوا عقابا صارما ليكونوا عبرة للآخرين. كما يطارد دعاة الحرية الحقيقيون بتهمة الشغب والخروج على القانون وتعريض الأمن القومي للخطر, وكما قتل كنيدي حين تجرأ جرأة لا تليق "بموظف" مسئول في حضن الرأسمالية.
وهي من جهة أخرى أداة ضخمة لإتلاف إنسانية الإنسان بإعطاء الفساد الديني والفساد الخلقي شرعية كاملة، وجعل ذلك جزءا أصيلا من مفهوم الديمقراطية ومفهوم الحرية.
فتحت هذا الشعار -شعار الحرية- ظل "الإنسان" الأوروبي يجد التشجيع المستمر على التحلل من دينه وعقيدته بوصف أن هذه أمور خاصة يتصرف فيها الإنسان على مزاجه الخاص، فمن شاء أن يبقى على عقيدة ودين فليبق، على مسئوليته الخاصة، وليتلق السخرية الدائمة من المجتمع ومن الكتاب والمفكرين وأهل "الفن" من قصاصين ومسرحيين وإذاعيين وتلفزيونيين ورسامي "الكاريكاتير" فضلا عن المخذلات الدائمة من حوله، التي تتفنن في صرفه عن الدين والعقيدة. ومن شاء أن يلحد فليلحد, ولن يقف في سبيله أحد