ثروته التي تكفل له الحياة هناك بلا عمل. ولا يتكلم أحد عن حق العمل في الريف ولا في المدينة؛ لأن الحاجة إليه لم تكن قد برزت بعد في ذلك المجتمع في ذلك الحين.
ولكن الثورة الصناعية قلبت هذه الأوضاع كلها وغيرتها، حين توافد إلى المدينة أعداد هائلة من العبيد المحررين من الإقطاع بعد تحطيمه يبحثون عن العمل في المدينة، ولم تكن الصناعات الناشئة تستوعب ذلك العدد كله وقتئذ.
ولا كانت هذه الصناعات مستقرة ومتمكنة، فقد كان كثير منها يفلس لأسباب مختلفة وتقوم مقامها مشروعات جديدة وهكذا.
ومن طبيعة العامل الذي نزح من الريف إلى المدينة ألا يحب الرجوع إلى الريف ولا بقي عاطلا في المدينة, فإنه بعد أن يعيش في المدينة الفسيحة المتعددة جوانب النشاط ويتعود -في حدوده الضيقة- على ألوان من المدنية، لا وجود لها في الريف، ويحس "بالحرية" حريته في أن يتصرف في أموره الشخصية كيف يشاء دون تدخل أو تحريج من مجتمع المدينة، بينما مجتمع الريف محكوم أبدا بتقاليده وبالتعارف الشخصي بين كل أفراده مما يضيق مجال تلك الحرية. بعد ذلك كله لا يحب أن يرجع إلى الريف الذي "تحرر" منه، ويفضل أن يبقى متسكعا في المدينة ولو ضاقت به سبل العيش.
ولكن القضية لم تكن قضية هذا الفرد أو ذاك، إنما صارت قضية ألوف من هؤلاء العمال وألوف تجتذبهم المدينة والبحث عن فرص العمل فيها، ثم لا تتسع لهم، وهي في الوقت ذاته تكبل أقدامهم "بسحرها" الخاص فلا يفارقونها.
وأصبحت القضية في حاجة إلى حل ... إلى تقرير "حق العمل" للألوف العاطلين في المدينة وإيجاد أعمال تستوعبهم. ولم يكن ذلك يسيرا في مبدأ الأمر, ولا تزال كل الحلول التي تقدمها الرأسمالية غير حاسمة تماما في هذه النقطة، وإن كان قد حدث تقدم ضخم في هذا الاتجاه من خلال المعارك التي قامت من أجل الحل، وتعرض فيها ألوف من العمال للسجن والتشريد والموت جوعا على الأرصفة بلا مأوى، والموت بالسل وغيره من أمراض سوء التغذية وسوء التهوية وسوء التدفئة في صقيع أوروبا البارد في الشتاء.
لم يكن الحل سهلا لأكثر من سبب في آن واحد.
ففكرة المسئولية غير قائمة أصلا في ذهن أحد على الإطلاق فالدولة لم تمارس هذه المسئولية من قبل أبدا، ولا تحسن أنها ملزمة بممارستها!