الاقتصادية. فلم تعد تعتمد على الرجل في معاشها، وقد لا يقبل الرجل على الزواج من امرأة برعت مثله في فنون الحب، فقدرتها على كسب دخل حسن هو الذي يجعل الزوج المنتظر مترددا، إذ كيف يمكن أن يكفي أجره المتواضع للإنفاق عليهما معا في مستواهما الحاضر من المعيشة؟

"وأخيرا تجد الرفيق الذى يطلب يدها للزواج، ويعقد عليها لا في كنيسة؛ لأنهما من أحرار الفكر الذين ألحدوا عن الدين، ولم يعد للقانون الخلقي الذي ظل جاثما على إيمانهما المهجور أثر في قلبيهما، إنهما يتزوجان في قبو المكتب البلدي "الذي يفوح منه عبير السياسة" ويستمعان إلى تعاويذ العمدة. إنهما لا يرتبطان بكلمة الشرف، بل بعقد من المصلحة، لهما الحرية في أي وقت في التحلل منه. فلا مراسيم مهيبة، ولا خطبة عظيمة، ولا موسيقى رائعة، ولا عمق ولا نشوة في الانفعال تحيل ألفاظ وعودهم إلى ذكريات لا تمحى من صفحة الذهن. ثم يقبل أحدهما صاحبه ضاحكا، ويتوجهان إلى البيت في صخب.

"إنه ليس بيتا! فليس ثمة كوخ ينتظر الترحيب بهما أنشئ وسط الحشائش النضرة والأشجار الظليلة، ولا حديقة تنبت لهما الزهور والخضروات التى يشعران بأنها أبهى وأحلى؛ لأنها من زرع أيديهما. بل يجب أن يخفيا أنفسهما خجلا كأنهما في زنزانة سجن في حجرات ضيقة لا يمكن أن تستبقيهما فيها طويلا، ولا يعنيان بتحسينها وتزيينها بما يعبر عن شخصيتهما. ليس هذا المسكن شيئا روحيا كالبيت الذى كان يتخذ مظهرا ويكسب روحا قبل ذلك بعشرين عاما "الكتاب مكتوب سنة 1929" بل مجرد شيء مادي فيه من الجفاف والبرودة ما تجده في مارستان. فهو يقوم وسط الضوضاء والحجارة والحديد حيث لا ينفذ إليه ربيع، ولا ينبت لهما الصيف الزرع النضر بل سيلا من المطر.. ولا يريان مع ورود الخريف قوس قزح في السماء, أو أي ألوان على أوراق الشجر بل المتاعب والذكريات الحزينة".

"وتصاب المرأة بخيبة أمل، فهي لا تجد في هذا البيت شيئا يجعل جدرانه تحتمل في الليل والنهار، ولا تلبث إلا قليلا حتى تهجره في كل مناسبة ولا تعود إليه إلا قبل مطلع الفجر.. ويخيب أمل الرجل، فهو لا يستطيع أن يتجول في أنحاء هذا البيت يعزي شعوره ببنائه وإصلاحه ما تصاب به أصابعه من دق المطارق.. ويكتشف بعد قليل أن هذه الحجرات تشبه تمام الشبه تلك التي كان يعيش فيها وهو أعزب، وأن علاقاته مع زوجته تشبه شبها عاديا تلك العلاقات

طور بواسطة نورين ميديا © 2015