أنهم دفعوا فيها شيئا يذكر، وإن كانوا في الحقيقة يدفعون جهدهم كله في عمل مضن طوال العام، ويدفعون من كرامتهم وإنسانيتهم.

والآن تغير الحال ... كثيرا.

لم تعد وطأة "السيد" ذات وقع حسي مباشر كما كانت في ظل الإقطاع، وإن كانت الوطأة المعنوية قائمة ولا شك. قائمة في حاجة العمال إلى العمل من أجل الحياة، وغطرسة صاحب المصنع وتكبره وتجبره وتقتيره في الأجور.

ثم إن العمل ذاته له وطأة؛ وهي وطأة حسية إلى جانب السطوة المعنوية لصاحب العمل. فهو عمل متواصل في إدارة الآلات -وكانت في مبدأ الأمر تحتاج إلى جهد بدني كبير في إدارتها- وليس من نوع العمل الريفي الذي كان مضنيا -نعم- ولكنه مرن في أدائه إلى حد ما. فأنت في الحقل حر -نسبيا- في أن تشغل المحراث ثلاث ساعات متوالية أو تشغله ساعة بعد ساعة بعد ساعة! وحر -نسبيا- في أن تجمع المحصول اليوم أو تجمعه غدا. وحقيقة إن "السيد" دائما هناك ووكيله الذي يشرف على عمل الفلاحين قاعد بالمرصاد يؤز الفلاحين للعمل أزا ولا يتركهم في راحة, ولكنه لا يستطيع أن يقف طيلة النهار على رءوسهم, ومن ثم يتنفسون بين الحين والحين، في حديث خاطف أو قصة مروية.

أما السيد الجديد فلا يتيح شيئا من ذلك.

صحيح أنه ليس له سوط يمسك به هو أو عامله "وكيله Steward" ليهوي به على ظهور العمال إن توانوا عن العمل، ولكن في يده سوطا معنويا لا يقل إيذاء وهو الخصم من الأجر أو الطرد من العمل!

ثم إن الأجر -حتى إن سلم من هاتين الآفتين جميعا- ضئيل بالنسبة لمطالب الحياة.

صحيح أنه -من حيث الكم- أضعاف ما كان يحصل عليه في الريف، ولكنه إذا وزع على المسكن والملبس والمطعم والمشرب لم يكد يفي بكل ذلك ولو على مستوى الكفاف.

ثم إن هناك أمرا هاما جدا في هذه الحياة الجديدة كان له خطره البعيد في تشكيل صورة المجتمع الصناعي الناشئ وإعطائه الطابع الذي يوافق هوى الشياطين ... فإن الأجر الضئيل الذي يتناوله العامل ولا يكاد يفي بحاجته لم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015