قال: ووصلنا إلى حلب واستغزرنا من ردها الحلب وقضينا الأرب وكان السلطان قلج أرسلان صاحب الروم وقد تعدى على بلاد قر أرسلان فكتب يشكو ويتضرر وأن مقاومته عليه تتعذر فغار من ذلك غيرة المغتاظ وعزم على قصد بلد قلج أرسلان وبدأ ببلدة مرعش ونزل على حصنها في العشرين من ذي العقدة وأمن من فيها وتسلمها وما حاصرناها أكثر من يوم فما غالونا برسوم. قال ومما كتبت إلى صديق لي بدمشق ومنها:
كتابي فديتك من مرعش ... وخوف نوايبها مرعشى
ترنحنى نشوات الغرام ... كأنى من كأسه منتشي
أسر وأعلن برح الغرام ... فقلبي يسير ودمعي يشي
قال: فرتب فيها والياً وجدد من رثها ما كان بالياً، وتولى عنها وجاء إلى بهنسى وواليها يعرف بقايماز السلطاني فأطلنا حصارها وأزلنا استظارها وقامت المجانيق على سورها ورخصت المهج الغوالي في سوقها ودام مرجوماً حتى انقض الجدار فطلب من فيها الأمان ودخلها نور الدين وفرعها ونعتها بعد أن صرعها وملك تلك البلاد وأقطعها الأجناد.
قال: وفي هذه السنة وصل الفقيه الإمام العالم قطب الدين النيسابوري وهو فقيه في عصره ونسيج وحده قدوة الإسلام ومفتي الأنام فسر نور الدين بدنو نوره وحضر غايب أنسه بسنا حضوره ونزل في حلب بمدرسة باب العراق فأطلعه إلى دمشق ودرس وشرع نور الدين في إنشاء مدرسة كبيرة للشافعية لفضله وأدركه الأجل دون إدراك عمارتها لأجله ونقل الله قطب الدين إلى جواره في الأيام الناصرية في سنة ثمان وسبعين.
قال: وعلى ذكر قطب الدين ذكرت وفادة شيخ الشيوخ عماد الدين أبي الفتح محمد بن علي بن محمد حموية إلى الشام في أوائل سنة أربع أو في سنة ثلاث وستين وأغفلت ذكره في موضعه فاستدركه ههنا. وكان كبير الشأن لم يكن له في علم الطريقة والحقيقة مساو فأقبل عليه نور الدين بكليته وأمرني بإنشاء منشور له بمشيخته صوفية الشام ومن جملة ما أتحفه به عمامة بأعمدة ذهبية نفذها صلاح الدين إليه فآثر بها شيخ الشيوخ فبذل فيها ألف دينار بزنة ذهبية فلم يجد من سامها إلى طلبها فقال: (176ب) دخلت سنة تسعة وستين ونور الدين قد فتح الحصون مرعش وبهنس واربيل وكيسون وكان مليح بن لاون متملك الأرمن في خدمته آوياً إلى ظل عصمته. وقد وصل إلى خدمته ضياء الدين مسعود ابن قفجان فخصه بالحباء والتشريف وأنزله من ظل إحسانه في المحل المنيف ووفد إليه صاحب ملطيه فأجزل له العطية وهو الذي قتله أخوه وملك البلد وحده ولم يفلح بعده. وكان في خدمته أيضاً الأمراء من المجدل فسرحهم بالعطاء الأجزل وأظهر أنه ينزل على قلعة الروم على الفرات فتقبل مستخلف الأرمن بالبراءة وحمل خمسة آلف دينار على سبيل الجزية والصغار، وعاد إلى حلب وقد نجح في كل ما طلب.
قال: كان القاضي كمال الدين توجه من دمشق عام أول إلى بغداد رسولاً ووجد من الديوان العزيز عزة ودنواً وإقبالاً وقبولاً. وأمر أمير المؤمنين المستضيء بضرب دنانير للنثار لا ينقص كل دينار عن عشرة مثاقيل واحضر لنور الدين مما وصل إليه من النضار المطبوع باسم النثار خمسين عدداً وزنها خمسمائة دينار فشكر علو تلك الهمة وسأل دوام النعمة.
قال: وكانت ناحيتا درب هرون وصريفين من أعمال العراق لزنكي بن آقسنقر والد نور الدين قديماً من أنعام أمير المؤمنين فسأل نور الدين إحياء ذلك الرسم في حقه فأنعم بهما أمير المؤمنين المستضيء عليه ووجه بهما مثاله إليه. وكان من مراده أن يستوهب ببغداد على شاطئ دجلة أرضاً ويبني فيها للشافعية مدرسة ويقف عليها الناحيتين فقيل له: ما ثم موضع يصلح لهذا (الأمر إلا دار التمر) فعاقه أمر القدر عن قدرته عن الأمر.